الثلاثاء، 23 مايو 2017

قارة أفريقيا والصراعات العقدية والحضارية المحمومة



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
فإن القارة الأفريقية قلعة من قلاع الإسلام عظيمة، عرفها الرعيل المبارك من حملة دين الإسلام، وكانت المهاجر الأول للصحابة الكرام رضي الله عنهم، وازدهرت فيها حضارات وممالك إسلامية عريقه عُمّرت لمئات السنين، امتدت في شرق القارة وغربها، ولا زالت بعض آثارها ومساجدها في تمبكتو غرباً، وزنجبار شرقاً، شامخة تحكي تاريخاً عريقاً. ثم ها هي ذي أفريقيا تشهد صراعاً عقدياً وحضارياً محموماً، اجتمعت ملامحه في خمسة مسارات:
المسار الأول: الصراع مع الجهل والخرافة:
فالجهل يضرب بجذوره في أعماق القارة الأفريقية، ويؤثر فيها عقدياً وحضارياً واجتماعياً، ومع الأسف الشديد تقاصرت خطط التنمية الحكومية كثيراً عن معالجة هذا الداء العضال، مما زاد من اتساع دائرة التخلف، لدرجه أن الأمية في أفريقيا جنوب الصحراء تصل إلى 62.4% من مجموع السكان، وقد تصل في بعض الدول مثل: كينيا، وزمبابوي إلى أكثر من 80% من مجموع السكان[1]..!

ومن أخطر نتائج الجهل: أن أفريقيا أصبحت عالماً تسوده الخرافة، وتسيطر عليه الضلالة؛ ولهذا انتشرت الوثنية بصورة مذهلة جداً، وأصبح السحر والشعوذة مؤثراً رئيساً في عقلية كثير من الجهلة.

ومن المؤسف حقاً أن بعض المنتسبين إلى الإسلام لم يسلموا من آثار هذه الخرافة؛ فانتشرت الطرقية الغالية، وتعلق كثير من العامة بمن يسمونهم بالأولياء والمشعوذين والسحرة، بل إن بعض القبائل نتيجة لتتابع القرون واندراس العلم وانتشار الخرافة تحولت إلى قبائل وثنية مثل قبيلتي (الغبرا) و (البوارن) في شمال كينيا وجنوب أثيوبيا[2].

المسار الثاني: الصراع مع الفقر والمرض:
يشكل الفقر والمرض داءين من أشد الأدواء التي تنهك القارة الأفريقية، وتزيد من آلامها وجراحها، وقد جاء في تقرير التنمية البشرية للعام (2003م) الصادر عن هيئة الأمم المتحدة أن (315) مليون شخص، أي 49% من مجموع سكان أفريقيا جنوب الصحراء يعيشون بدولار واحد أو أقل في اليوم حسب إحصاءات سنة (1999م)[3].

وجاء في التقرير نفسه أن نسبة السكان الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم في الفترة من (1990م 2001م) في أوغندا 82.2%، وفي أثيوبيا 81.9% وفي مالي 72.8% وفي نيجيريا 70.2% وفي النيجر 61.4% وفي كينيا 23%[4].

وضاعف من استفحال هذا الواقع البائس ثلاثة أمور:
1- الفساد السياسي والإداري والمالي الذي يستشري في معظم الحكومات الديكتاتورية الأفريقية، ويؤثر كثيراً في حقوق الشعوب ومقدراتها التنموية[5].

2- التصحر الشديد الذي يتنامى بشكل متسارع في كثير من المناطق.

3- الصراعات القبلية والحروب الأهلية التي أهلكت الحرث والزرع، وشرَّدت المستضعفين، وأسلمتهم للجوع والمرض.

إنَّ أفريقيا تئن منذ زمن بعيد تحت أثقال المرض، ويمثل مرضي (الإيدز والملاريا) أشد الأمراض خطورة وانتشاراً، فضلاً عن الأمراض الوبائية التي تنتشر أحياناً في بعض المناطق بين وقت وآخر لأسباب شتى.

وقد جاء في تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة عام (2003م) أن أفريقيا جنوب الصحراء تضم 70% من حالات الإصابة العالمية بفيروس الإيدز، أي أن عدد المصابين بالإيدز في أفريقيا جنوب الصحراء (29.400.000) شخص، ونص التقرير على أن الإيدز يصيب بعض أنحاء أفريقيا بالشلل، فثمة واحد تقريباً أو أكثر من بين ثلاثة بالغين مصاب بالعدوى في بتسوانا وليسوتو وسوازيلاند وزيمبابوي، وواحد من خمسة في ناميبيا وجنوب أفريقيا وزامبيا، وما يزيد على واحد من 20 في 19 بلداً آخر[6].

واللافت للنظر أن العالم كله ظل متفرجاً على هذا الواقع لا يُحرِّك ساكناً، وإنما يقوم أحياناً بأعمال رمزية شكلية، هي أقرب إلى الأعمال الدعائية منها إلى الأعمال الإنسانية الجادة.

بل تستخدم الدول الكبرى القروض الربوية التي زلزلت أركان القارة الأفريقية لمزيد من الهيمنة والابتزاز..!!

ومن المذهل جداً أن من بين ال 26 دولة المنخفضة الدخل المثقلة بالديون في العالم يوجد فيها 23 دولة أفريقية خلال الفترة من (1988م) إلى (1990م)[7].

المسار الثالث: الصراع بين الإسلام والنصرانية:
حيث تشهد القارة الأفريقية صراعاً وتنافساً شديداً بين المسلمين والنصارى، حشدت فيه المنظمات والكنائس العالمية أقصى ما تملك من قدرات مالية وبشرية، ورفع بابا الفاتيكان لواء هذا الجمع، وبشر بأفريقيا النصرانية، ثم تتابعت زياراته الميدانية شرقاً وغرباً.

والجدير بالتأكيد أن المنصرين أرادوا إيهام الأفارقة بأن طريق التحضر والتمدن إنما هو بالدخول في النصرانية، وقالوا لهم: (إن كنت مسيحياً فأنت متحضر، وإن كنت متحضراً فسوف تصبح مسيحياً)[8].

ومن الحقائق المهمة أن التنصير والاستعمار كانا متلازمين، وكان الرحالة والمستكشفون الأوائل من المنصرين هم الطلائع الأولى للاستعمار، ولهذا قال الروائي الجنوب أفريقي (بيتر أبراهام): (في الحقيقة المسيحية دابة الاستعمار)[9].

ولا نبالغ إذا قلنا إن أشد منطقة يصطرع فيها المسلمون مع المنصرين بمختلف كنائسهم هي أفريقيا.

المسار الرابع: صراع الثقافة والقيم:
فالقارة الأفريقية منذ الطلائع الأولى للاستعمار الأوروبي تشهد حملة تغريبية شرسة، تسعى لتغيير ثقافة الشعوب، وقطعها عن جذورها، ومسخ هويتها، وتجريدها حتى من لغتها، وتستبدلها بأخلاقيات اجتماعية وقيم حضارية وثقافية غربية.

لقد شهدت أفريقيا حالة من انعدام التوازن الفكري حالها حال بقية دول العالم الثالث أو أشد، وحرص الاستعمار أن يربط بين العلم والتغريب الثقافي والاجتماعي، ويجعلهما متلازمين، مما أدى إلى حالة جديدة من الغيبوبة والانحراف عند كثير ممن تربوا في المحاضن الغربية أو المستغربة، ويصف نلسون مانديلا هذه الحالة بوضوح عندما قال: (لقد كان الرجل الإنجليزي المتعلم مثلنا الأعلى، وما كان أحد ليطمح إلى أن يصبح أكثر من «جنتلمان أسود» كما كنا أحياناً نصف أنفسنا بشيء من السخرية. لقد علمنا واعتقدنا فعلاً أن أفضل الأفكار هي الأفكار الإنجليزية، وأفضل الحكومات هي الحكومة الإنجليزية، وأفضل الرجال هم الرجال الإنجليز)[10].

وهناك في غرب أفريقيا يؤكد جان مارك هلا أن: (التعليم الاستعماري يسعى إلى خلق أفراد سود في ألوانهم، بيض في تفكيرهم، ومع فرضه لغة الاستعمار استخدام التاريخ لتوطيد مراميه السياسية والتربوية؛ فمناهج الاستعمار تقوم على تلقين الطالب الأفريقي بأن فرنسا دولة غنية جبارة قادرة على فرض نفوذها، وفي الوقت نفسه لا تعوزها بمالها ورجالها نجدة الشعوب المقهورة، ولا أن تصدر إلى الشعوب الهمجية ثمار السلام والتحضر)[11].

وزاد من الأمر سوءاً تخلي المؤسسات التربوية والاجتماعية عن كثير من ركائزها، مما فتح الباب على مصراعيه لثقافة استعمارية وافدة أدت إلى ظهور إنسان مختلف بشدة عن إنسان ما قبل النفوذ الأوروبي.

المسار الخامس: صراع النفوذ والهيمنة:
فالعقلية الاستعمارية قديماً وحديثاً هي المعادلة الجلية التي تحكم العلاقة بين الغرب وأفريقيا، والدول الأوروبية الاستعمارية تنافست بشدة لاحتواء القارة الأفريقية وابتلاعها، ونهب خيراتها ومواردها الاقتصادية، ثم ورثت الولايات المتحدة الأمريكية هذا الصراع، وراحت بسطوتها واستعلائها تبتز القارة بشرقها وغربها، شمالها وجنوبها، وتبسط هيمنتها على مناجم وثروات جديدة[12].

وحرص الغرب على دعم قيادات سياسية ديكتاتورية تكرس الهيمنة الغربية، وتُغيبّ الشعوب عن حقيقة ما يجري..؟!
الجدير بالذكر في هذا السياق أن الإنسان الأفريقي المعاصر لم يعد ذلك الإنسان المستضعف مهيض الجناح الذي يُشترى بثمن بخس، أو يُسرق ويسلسل ويُرمى بكل وحشية في السفن الغربية ليباع في سوق النخاسة، وتنتهك إنسانيته وكرامته في الغرب[13].

الإنسان الأفريقي لم يعد ذلك الإنسان الذي يُسخّر لخدمة الرجل الأبيض، فيحرث أرضه المسروقة، ويستخرج له المعادن الكريمة من المناجم، ليحظى بلقمة وضيعة يجود بها سيده..!!

الإنسان الأفريقي لم يعد ذلك الإنسان التابع الذليل الذي تحدث عنه المفكر الفرنسي جان جاك روسو عندما قال: (كنا نحضر رؤساء القبائل وأولاد الأشراف والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في أمستردام ولندن والنرويج وبلجيكا وباريس؛ فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح والغُدو. ويتعلمون لغتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا ندبر لبعضهم أحياناً زيجات أوروبية، ثم نلقنهم أسلوب الحياة الغربية. كنا نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبا، ثم نرسلهم إلى بلادهم..

وأي بلاد؟! بلاد كانت أبوابها مغلقة دائماً في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذاً إليها، كنا بالنسبة إليهم رجسا ونجساً، ولكن منذ أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم، كنا نصيح في أمستردام أو برلين أو باريس: الإخاء البشري! فيرتد رجع أصواتنا من أقاصي إفريقيا أو الشرق الأوسط أو شمالي أفريقيا.. كنا نقول: ليحل المذهب الإنساني أو دين الإنسانية محل الأديان المختلفة، وكانوا يرددون أصواتنا هذه من أفواههم. وحين نصمت يصمتون، إلا أننا كنا واثقين من أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم..)[14].

نعم.. ربما يوجد بقايا كثيرون من هؤلاء وأولئك، وربما سعى الغرب لترويض الآخرين وكبح جماحهم وقصقصة أجنحتهم، لكن الإنسان الأفريقي عاد من جديد ليضع قدمه في الطريق الصحيح للتحضر.. لقد دبَّت فيه الحياة وأصبح إنساناً آخر يعتز بدينه الإسلامي، ويفخر بكرامته، وينتزع حقوقه بكل أنفة.

لقد أصبح الإنسان الأفريقي إنساناً جديداً يأبى العبودية والضيم، ويسعى بعزيمة لبناء نفسه، وإحياء مجتمعه، وتنمية أمته.

إنه الوعي بالهوية التي استُلبت ردحاً طويلاً من الزمن.. الوعي الذي جعله يدرك شخصيته المستقلة ويرفع بها رأساً.

قد يكون الطريق طويلاً، ومليئاً بالمصاعب، وتعترضه العوائق من كل مكان، لكن متى كانت المصاعب والعوائق حائلاً دون العزة والكرامة؟!

لقد ورثت أفريقيا تركة قرون متتابعة، برزت آثارها في التخلف الحضاري وانتشار الجهل والمرض والفقر.. إنها تركة ثقيلة صعبة بالتأكيد، لكن هذا الواقع ليس قدراً لازماً لا انفكاك منه. ولاشك بأن ثمن النهضة والنمو ثمن باهظ، ولا تقطف ثمرته بمجرد الأماني والرغبات، ولكن بالعمل الطموح والإرادة الحية المتوثبة. والطريق الصحيح يبدأ في رؤية الهدف المستقبلي بنظر ثاقب، وتحديد المسار الأمثل لتحقيقه.

إن الإنسان الأفريقي يملك مقومات وطاقات هائلة، لكنها في كثير من الأحيان طاقات كامنة تنتظر من يستنهضها، ويُجدّد دماءها، ويستحثها للإنجاز والعطاء، وهذا هو التحدي الكبير الذي ينبغي أن يتصدر له المعنيون بشؤون القارة الإفريقية.

وليس أضر على الأمم من اليأس والهزيمة الداخلية، لأنهما إذا استحكما في النفوس أُحبطت الأمم وأُقعدت، وأصبحت كل عقبة مهما كانت يسيرة حائلاً منيعاً للنهوض.

بينما ترى أن النفوس المتفائلة الواثقة تنطلق بكل عزيمة، وتجعل الأزمات والمشكلات بداية الانطلاق والانفراج.

إن هذه المرحلة التاريخية الصعبة التي تمر بها القارة الأفريقية الخضراء استنفرت أبناءها ومحبيها للحفاظ على أمتهم وتاريخهم وجذورهم الثقافية والحضارية، وبذلوا جهوداً حثيثة معطاءة تستحق الذكر والإشادة. ونؤكد هنا أن التخطيط البصير، وقراءة المستقبل بعقلية علمية ناضجة من أولى أولويات البدايات الصحيحة: فالرؤية الناقصة، والأعمال المرتجلة نتيجتها الطبعية مزيداً من القصور والتخبط!!

كما أن الوعي بالواقع وتداعياته وأولوياته ليس ترفاً فكرياً أو تكثراً معرفياً؛ بل هو ضرورة في غاية الأهمية والخطورة. وصناعة الوعي عملية شاقة تتطلب عملاً جاداً دؤوباً لا يقوم به إلا ذوو الرأي والسداد من رواد الأمة.

وحينما نتحدث عن دراسة الواقع فإننا لا نعني مشاهدة الظواهر العابرة أو السطحية فحسب، وإنما نقصد سبر أعماق المجتمع بأبعاده المختلفة، ومعرفة معالم القوة أو الضعف، ودراسة العقبات والتحديات من جهة، والفرص التي يمكن استثمارها من جهة أخرى، واستيعاب سنن التاريخ ونواميس الكون وتجارب الشعوب والحضارات.

المصدر: مجلة قراءات إفريقية - العدد الأول - رمضان 1425ه / أكتوبر 2004م


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/world_muslims/0/64419/#ixzz4hqhYJlIm

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

لمحات من أحد طواغيت التاريخ (ستالين) (الإله.. الذي أنكروه) - عزت عبد العزيز حجازي - من كتاب جبروت الطاغية وطغيان الحاشية)

¨   بعد أن أطلقوا عليه في حياته أسماء كثيرة، كادت أن ترفعه إلى مقام الآلهة أو الأنبياء.. فقد قالوا عنه أنه:(أحب شعبه؛ وأنه "ال...

المشاركات الشائعة أخر 7 أيام