السبت، 20 يناير 2018

بيت جدي بقلم علي الشافعي

إضافة تسمية توضيحية
بيت جدي بقلم علي الشافعي
سأنأى بكم اليوم ــ يا دام سعدكم ــ عن السياسة واهلها , وعن همومها واوجاعها ومآسيها وبلاويها لأريح اعصابكم قليلا , فأنقلكم الى جو محبب للنفس , ذكريات الماضي , ذلك الزمن الجميل , ذكريات عشناها فعاشت في وجداننا , افقدنا بساطتها وحلاوتها , في هذا الزمن العجيب , فأقول بعد ان تصلوا على طه الرسول :
سال الحفيد الفتى جده الشيخ ذات يوم : يا جدي فسّرَ لنا المعلم اليوم اية من كتاب الله في سورة النور , فيها كلمة لم استطع انا وكثير من زملائي تمثلها في اذهاننا , رغم محاولته توضيحها , وباعتبارك معلما قديما لا بد ان لديك القدرة على توضيحها . قال الجد : ما الآية يا بني وما الكلمة ؟ قال الفتى : في قوله جل شانه (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35 ( . لم استوعب معنى المشكاة . قال الجد : وبم فسرها المعلم ؟ قال : يقول هي كُوّة ( فتحة) في الجدار يوضع فيها المصباح , قال الجد : صحيح يا ولدي ! فما الذي لم تتصوره فيها ؟ قال الحفيد : لم اتخيل فتحة في الجدار يوضع فيها المصباح , فالجدار سمكه 20سم , كيف ستكون الفتحة وكيف يستقر عليها المصباح , و ستكون ايضا مطلة على الخارج او على حجرة اخرى , قال الشيخ : استاذك صادق يا بني لكنه لم يستطع ان يمثلها لكم , فبقيت فكرة في الاذهان صعب عليكم تصورها . لك يا ولدي ولزملائك ولمن لم يعش ذلك الزمن سأوضحها , فقد شوقتني وذكرتني بالذي مضى , في البيت الكبير بيت جد ابيك , الذي تربيت انا وترعرعت في اكنافه , واظن ان اباك مازال يذكر بعض معالم ذلك البت , والادوات التي ما عادت تستخدم على ايامكم .
اعلم يا بني ان زمنكم هذا زمن العجائب والغرائب , فالنقلة الحضارية في الخمسين سنة الماضة , لم يشهد لها التاريخ مثيلا , وان كثيرا من الادوات التي تعتبرونها في زمنكم طبيعية وعادية , ما كنّا قادرين على مجرد تخيلها , حتى في افلام الخيال العلمي , ادوات ووسائل للراحة والرفاهية , كالكمبيوتر والانترنت والاجهزة الخلوية بتطوراتها , والادوات الكهربائية والالكترونية والفضائيات ووسائل الاتصال , التي جعلت العالم كله قرية صغيرة بين ايديكم , تجسد الحدث الذي يقع في الصين وقت حدوثه , وتجعلك تلف الكرة الارضية برمتها وانت جالس في بيتك . لكن للحضارة يا بني ضريبة ؛ فقد تغير نمط الحياة التقليدية بالقضاء على نظام البيت العربي القديم , بيت الاباء والاجداد او ما يسمى بالبيت الكبير , واستبداله بهذه المكعبات الاسمنتية التي يطلق عليها شقق وفلل وعمارات . 
كان البيت ــ يا بني ــ يبنى من الحجارة او اللبن وكان الجدار بسمك حوالي 75 سم الى المتر : حجر كبير من الخارج واخر من الداخل وبينهما طبقة من الطين والحجارة الصغيرة لتمسك الحجارة الكبيرة ببعضها , وهذا النوع من البناء يسمونه بالعامية ( بتتين وركّة) , ثم يليس البيت بالطين من الداخل ويبقى الحدار من الحجر الجميل المتناسق من الخارج . 
في الداخل وعلى ارتفاع مترين تقريبا يبقون مكان بعض الحجارة الداخلية فارغا فتصبح كوة او طاقة غير نافذة في الجدار , خلفها طبقتا الطين والحجارة , فهذه يا بني هي المشكاة , بوضع فيها سراج الاضاءة , او مصباح يوقد بالزيت , ثم بعد اكتشاف البترول تفنن الصناع في تشكيل المصابيح , التي يستخدم فيها الكاز للإضاءة , مازلت اذكر المصباح نمرة 4 وهو من الزجاج , فقد كنت مسؤولا عن تزييته كل مساء , وقد درس جدك حتى نهاية المرحلة الاساسية على هذا المصباح , قبل ان تدخل الكهرباء قريتنا . و ظهر بعد ذلك الشمعدان وهو من الخزف الصيني بالوان وزخارف رائعة , كانت العرائس تتفنن في صنع اغطية له من الخرز , وتصر ان يكون الشمعدان من ضمن جهازها , ويكون هدية من اهلها , اشارة الى ان العروس ستنور بيت عريسها . ظهر بعد ذلك (اللوكس ابو شمبر) , وكان قوي الاضاءة يستعمل في المضافات والسهرات والمناسبات العامة والاعراس .
لنعد ــ يا ولدي ــ الى البيت الكبير , فبنفس الطريقة تعمل خزائن في الجدار بوضع فيها الاثاث , وخاصة الفراش والوسائد وادوات المطبخ والمؤونة السريعة . والبيت الكبير يا ولدي واسع , قد تصل مساحته حوالي 100 متر , حسب عدد القناطر . قاطع الفتى جده : يا جدي ما هي القناطر ؟ تنهد الجد وسرح فكره : القناطر يا ولدي هي اقواس من الحجارة ترص بشكل هندسي , يركب عليها السقف , وتكون على نظامين : فان كانت متوازية سمي البيت (ذو القناطر) , واذا كانت متقاطعة تلتقي في نقطة واحدة على شكل سنام الجمل سمي البيت (العَقِد) . واعمدة القناطر تكون في العادة بارزة داخل البيت , و تبنى الخوابئ بينها , وهي اوعية كبيرة من الطين تخزن فيها المونة الشتوية , كالقمح والعدس والحمص والفول والبرغل وغيرها من البقوليات وهناك خوابي او جرار كبيرة من الفخار او الصلصال للزيت والزيتون والزبدة والسمن والعسل . طبعا هذا البيت يا بني هو في العادة للمعيشة والضيوف والنوم , ففي النهار يفرش الفراش على الدائر فتكون مضافة , وفي الليل على شكل متوازي للنوم . 
قال الفتى : يا جدي ما الادوات التي كانت تستخدم ايامكم وغير موجودة على ايامنا , قال الجد : هي كثيرة يا بني ولنبدأ اولا بأدوات الاكل والشرب , فنذكر اولا طيب الذكر (البريموس او البابور ) : ويعمل على الكاز وهو محل البوتغاز هذه الايام , له صوت يشبه هدير الطائرة , خاصة اذا كان الباب مغلقا , يستخدم للطبخ وعمل القهوة والشاي , اضافة الى مواقد الحطب التي كانت تصنع من الصلصال , وفي البيت يخصص مكان للزير والجرة والكوز و الشّربة والعسلية , وهي اوعية مختلفة الحجم اصغرها الكوز واكبرها الزير , اوعية من الفخار يوضع فيها الماء , وهذا النوع من الفخار يرشح رشحا خفيفا ليبقى الاناء رطبا من الخارج , فيساعد في برودة الماء داخل الاناء خاصة في الصيف , الله يا ولدي كم تتوق نفسي لشربة ماء من ذلك الكوز تحت شجرة زيتون ظهيرة يوم صيفي في حقل جد ابيك .
اخذ الجد نفسا عميقا تلته تنهيدة وقال : اه ــ يا ولدي ــ , لقد فتحت الجراح , وقلبت عليّ المواجع , يكفي اليوم فقد تعبت . قال الفتى : والله يا جدي ما شبعت من هذا الحديث الشيق , فقدت تعلمت منك اليوم ما لم اتعلمه في المدارس . قال الجد : اعدك ان يكون لنا جلسات اخرى , ان كان في العمر بقية , لأصور لك حياة الاسلاف, لكي لا يفقد جيلكم هويته وتاريخه . طبتم وطابت اوقاتكم .


ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

لمحات من أحد طواغيت التاريخ (ستالين) (الإله.. الذي أنكروه) - عزت عبد العزيز حجازي - من كتاب جبروت الطاغية وطغيان الحاشية)

¨   بعد أن أطلقوا عليه في حياته أسماء كثيرة، كادت أن ترفعه إلى مقام الآلهة أو الأنبياء.. فقد قالوا عنه أنه:(أحب شعبه؛ وأنه "ال...

المشاركات الشائعة أخر 7 أيام