جنيهُُ مِصرى ذهب يُحَدِّث بسيرتهِ
عزت عبد العزيزحجازي
للفتيان
كنت جنيناً (1) فى الثرى ، شتاًّ (2) فى
الصخور والرمال ، مشيجا (3)× بالحديد والنحاس ومختلف المعادن ، فبعث الله العمال
يبحثون عنى فى الأرض ، فأحاثوها (4) ، واستخرجونى بين أوشاب (5) الأحجار ، ثم
حملوها إلى حيث ذرّوها (6) ، فأزالوا زيف الجواهر عنى ، وأظهرونى نقياً مصفًّى ،
وصاغونى سبائك ، صُهِرَت فى أوعية على تنُّور مسجور وأضافوا لى قليلا من مصهور
النحاس ، ليكسبنى صلابة ، وأفرغونى فى السِّكة (7) فظهرت كما ترانى ، : مستديراً
خلاَّباً ، أصفر رناناً، مشوفاً (8) وهاجاً . يخطف الأبصار بريقى ، ويهز القلوب
منظرى ، وتحف بى أشور (9) جميلة ، وتزين إحدى صفحتى صورة المليك المُفدَّى ، وإسمه
الكريم ، وعلى وجهى الثانى ترى رقم العام الذى ضُرِبْت فيه ، وإسم المملكة وقيمتى
.
وليس من شيمتى أن أستقر فى يد ، أو أقيم فى
بلد . فطوراً أتلألأ فى يد الوزير ، وطوراً آخر ألمع بين أصابع الخفير ، ويوماً
يحتوينى كوخ الفلاح ، ويوما آخر تضمنى خِزانة التاجر ، ولكن العزيز – فى رأى كثير
منكم - من ملكنى ، والذليل من حُرمنى . ولقد أجمع الناس على حبى وخطبوا وُدى وقربى
، وتهافتوا على طلبى ، فأصبحت فتنة العالمين : روّعت فئة منهم فى مضاجعهم ، وسُقْت
الإجرام والغش لكثير منهم ، ، وأرَّثت (10) الحقد فى الصدور ، وأغريت بالقتل
واجتراح (11) الشرور . وساعدت مرضى النفوس على إنتهاك المحارم ، وزينت للص إرتكاب
الجرائم ، . وسوَّلت (12) للمستخدم أن يبيع ذمته ، وللقائد أن يخون أمته ، وللتاجر
أن يُدَلِّس فى بضاعته . وكم جعلت من العلماء فسقة فجرة ، يموهون فى الدين ،
ويختلقون عليه الأحكام ، ومن القضاة طواغى (13) أضلهم الله على علم ، فاستحبوا
العمى على الهدى ، واستبدلوا بالعدل جوراً ، واشتروا بالحق باطلا . ومن الكتاب
طغاماً (14) غَدَرَة : يحسنون القبيح ، ويضلِّلون الأفهام ، وكم إستعبدت أحراراً ،
×واسترقَقْت أعناقاً ، وكنت مع ذلك رحمة للعالمين : فإن
الناس بفضلى يرفلُون فى برود النِّعم ، ويجرٍُون
ذلاذل(15)
الهناءة ، ويرتعون فى زينة الله التى أخرج لعباده ، والطيبات من الرزق ، ويتمتعون
بما تشتهى الأنفس
وتلذ
الأعين ،. وإن إنساناً يعيش×تحت سمائى ، ويرتع فى رياضى ، لا تُسفُّ (16) نفسه
للنذالة ، ويأبىَ إلا الكرامة ، فكم وفَرت أعراضاً ، وزوَّدْت بالعفة نفوساً ،
فعاف(17) الدنس ، وتصوّنت من النقيصة . وفى طاقة من يملكنى أن يجمع الناس على حبه
، ×ويؤلفهم على إجلاله وتوقيره ، إذا سخابى عليهم ، أو
أنفقنى فى جلب الخير لهم ، ودرْ الضر عنهم . وقد أكون زُلفى(18) إلى الله ،
ومدّخراً للحسنات ، ومكفراً للسيئات ، إذا طابت النفس بإنفاقى ، فى تخفيف الويلات
، أو مستور الصدقات ، أو فى خير المشروعات ، كإنشاء المدارس والمستشفيات ،
والملاجىء والمصحّات . وكائن (19)ترى من مريض رزأه المرض وضعضعه ، فأطال ليله ،
وأمرَّ عيشه، وطيّر الرقاد من عينيه ، حتى تشعَّبت (20)الهموم ، وتقسَّمته الغموم
، فدعا بإسمى نطس (21) الأطباء ، واستحضر بقوتى مهرَة الحكماء ، فَسرَّوْا همه
(22) ، وأجلَوا كربه ، وألبسوه جدة العافية ، فانتعش وفرح ، وابتهج واستبشر . ×
أنا معين الطالب على إدمان الدرس والتهذيب ،
ومساعد العلماء على مداومة البحث والتنقيب ، بى تكون السعادة ، وتتأنى السيادة ،
وتُغْسَل الإهانات ، وتُغفَر الزلات . وبى تُلِين الحديد ، وتَفْعل ما تريد ،
وتُخْصِب ×قرائح الشعراء وتُنَظِّم دُرَر البلغاء ، وقديما كنت ذهب
المعز ، أذل ّبى الأعناق ، وأخضع الرقاب وأخرس الألسنة، وكمّم الأفواه .
ولقد تباين الناس فى الحصول على ، والنظر
إلىَّ ، فمنهم من لا يرانى إلا بكدِّ اليمين ، وعرق الجبين ، وينفقنى فى إشباع
بطون طاوية (23) ، وستر أجسام عارية ، ومنهم من يرانى أفيض بين يديه من حيث لا
يحتسب ، فيبذرنى بذرا، ×للحصول على شهرة ، أو كسب جاه ، أو يرسلنى عطاء يشترى به
حمدا وثناء . ومنهم من يعيدنى وإخوتى سيرتنا الأولى . فيرجعنا إلى بطن أمنا ، حذر
العيون أن تلحظنا ، والآذان أن تسمع رنيننا ، ولا هَمَّ له إلا أن يكثر عديدنا،
ويمتع نفسه برؤيتنا ، حتى يودعنا بحسرة . ويخلفه وارثوه من بعده ، فيبعثوننا من
قبورنا ، ويتصرفون فينا، ولله فى خلقه شئون .
×(1) جنيناً : مستوراً (2) شتاً : متفرقاً
(3) مشيجاً :
مخلوطاً (4) أحاث الأرض : أثارها وطلب ما فيها
(5) أوشاب :
أخلاط (6) ذريت المعدن : طليت الذهب منه
(7) السكة : حديدة منقوشة يضرب عليها الدراهم (8)
مشوفاً : مجلواًً
(9) أشور : تحزيزات
(10) أرّث : أوقد
(11) إجترح :
إرتكب (12) سولت : زينت
(13) طواغى :
رءوس ضلال (14) الطغام : الأوغاد الذين
يخدمون بطعام بطونهم
(16)
لاتسف : لا تطلب الأمور الدنيئة
(17) عافت :
كرهت (18) زلفى : قربى
(19) كائن : كم
كثير (20) تشعبته الهموم : إستولت عليه
(21) نُطُس :
مهرة (22) سَََرّّوا همه : أزالوه
(23) طاوية :
جائعة

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق