الأحد، 18 ديسمبر 2016

جنيهُُ مِصرى ذهب يُحَدِّث بسيرتهِ - قصة للفتيان تأليف عزت عبد العزيز حجازي

جنيهُُ مِصرى ذهب يُحَدِّث بسيرتهِ
عزت عبد العزيزحجازي
للفتيان

      كنت جنيناً (1) فى الثرى ، شتاًّ (2) فى الصخور والرمال ، مشيجا (3)× بالحديد والنحاس ومختلف المعادن ، فبعث الله العمال يبحثون عنى فى الأرض ، فأحاثوها (4) ، واستخرجونى بين أوشاب (5) الأحجار ، ثم حملوها إلى حيث ذرّوها (6) ، فأزالوا زيف الجواهر عنى ، وأظهرونى نقياً مصفًّى ، وصاغونى سبائك ، صُهِرَت فى أوعية على تنُّور مسجور وأضافوا لى قليلا من مصهور النحاس ، ليكسبنى صلابة ، وأفرغونى فى السِّكة (7) فظهرت كما ترانى ، : مستديراً خلاَّباً ، أصفر رناناً، مشوفاً (8) وهاجاً . يخطف الأبصار بريقى ، ويهز القلوب منظرى ، وتحف بى أشور (9) جميلة ، وتزين إحدى صفحتى صورة المليك المُفدَّى ، وإسمه الكريم ، وعلى وجهى الثانى ترى رقم العام الذى ضُرِبْت فيه ، وإسم المملكة وقيمتى .
     وليس من شيمتى أن أستقر فى يد ، أو أقيم فى بلد . فطوراً أتلألأ فى يد الوزير ، وطوراً آخر ألمع بين أصابع الخفير ، ويوماً يحتوينى كوخ الفلاح ، ويوما آخر تضمنى خِزانة التاجر ، ولكن العزيز – فى رأى كثير منكم - من ملكنى ، والذليل من حُرمنى . ولقد أجمع الناس على حبى وخطبوا وُدى وقربى ، وتهافتوا على طلبى ، فأصبحت فتنة العالمين : روّعت فئة منهم فى مضاجعهم ، وسُقْت الإجرام والغش لكثير منهم ، ، وأرَّثت (10) الحقد فى الصدور ، وأغريت بالقتل واجتراح (11) الشرور . وساعدت مرضى النفوس على إنتهاك المحارم ، وزينت للص إرتكاب الجرائم ، . وسوَّلت (12) للمستخدم أن يبيع ذمته ، وللقائد أن يخون أمته ، وللتاجر أن يُدَلِّس فى بضاعته . وكم جعلت من العلماء فسقة فجرة ، يموهون فى الدين ، ويختلقون عليه الأحكام ، ومن القضاة طواغى (13) أضلهم الله على علم ، فاستحبوا العمى على الهدى ، واستبدلوا بالعدل جوراً ، واشتروا بالحق باطلا . ومن الكتاب طغاماً (14) غَدَرَة : يحسنون القبيح ، ويضلِّلون الأفهام ، وكم إستعبدت أحراراً ،

×واسترقَقْت أعناقاً ، وكنت مع ذلك رحمة للعالمين : فإن الناس بفضلى يرفلُون فى برود النِّعم ، ويجرٍُون
ذلاذل(15) الهناءة ، ويرتعون فى زينة الله التى أخرج لعباده ، والطيبات من الرزق ، ويتمتعون بما تشتهى الأنفس
وتلذ الأعين ،. وإن إنساناً يعيش×تحت سمائى ، ويرتع فى رياضى ، لا تُسفُّ (16) نفسه للنذالة ، ويأبىَ إلا الكرامة ، فكم وفَرت أعراضاً ، وزوَّدْت بالعفة نفوساً ، فعاف(17) الدنس ، وتصوّنت من النقيصة . وفى طاقة من يملكنى أن يجمع الناس على حبه ، ×ويؤلفهم على إجلاله وتوقيره ، إذا سخابى عليهم ، أو أنفقنى فى جلب الخير لهم ، ودرْ الضر عنهم . وقد أكون زُلفى(18) إلى الله ، ومدّخراً للحسنات ، ومكفراً للسيئات ، إذا طابت النفس بإنفاقى ، فى تخفيف الويلات ، أو مستور الصدقات ، أو فى خير المشروعات ، كإنشاء المدارس والمستشفيات ، والملاجىء والمصحّات . وكائن (19)ترى من مريض رزأه المرض وضعضعه ، فأطال ليله ، وأمرَّ عيشه، وطيّر الرقاد من عينيه ، حتى تشعَّبت (20)الهموم ، وتقسَّمته الغموم ، فدعا بإسمى نطس (21) الأطباء ، واستحضر بقوتى مهرَة الحكماء ، فَسرَّوْا همه (22) ، وأجلَوا كربه ، وألبسوه جدة العافية ، فانتعش وفرح ، وابتهج واستبشر . ×
     أنا معين الطالب على إدمان الدرس والتهذيب ، ومساعد العلماء على مداومة البحث والتنقيب ، بى تكون السعادة ، وتتأنى السيادة ، وتُغْسَل الإهانات ، وتُغفَر الزلات . وبى تُلِين الحديد ، وتَفْعل ما تريد ، وتُخْصِب ×قرائح الشعراء وتُنَظِّم دُرَر البلغاء ، وقديما كنت ذهب المعز ، أذل ّبى الأعناق ، وأخضع الرقاب وأخرس الألسنة، وكمّم الأفواه .
     ولقد تباين الناس فى الحصول على ، والنظر إلىَّ ، فمنهم من لا يرانى إلا بكدِّ اليمين ، وعرق الجبين ، وينفقنى فى إشباع بطون طاوية (23) ، وستر أجسام عارية ، ومنهم من يرانى أفيض بين يديه من حيث لا يحتسب ، فيبذرنى بذرا، ×للحصول على شهرة ، أو كسب جاه ، أو يرسلنى عطاء يشترى به حمدا وثناء . ومنهم من يعيدنى وإخوتى سيرتنا الأولى . فيرجعنا إلى بطن أمنا ، حذر العيون أن تلحظنا ، والآذان أن تسمع رنيننا ، ولا هَمَّ له إلا أن يكثر عديدنا، ويمتع نفسه برؤيتنا ، حتى يودعنا بحسرة . ويخلفه وارثوه من بعده ، فيبعثوننا من قبورنا ، ويتصرفون فينا، ولله فى خلقه شئون .







×(1)  جنيناً : مستوراً  (2) شتاً : متفرقاً 
(3)  مشيجاً : مخلوطاً  (4)  أحاث الأرض : أثارها وطلب ما فيها 
(5)  أوشاب : أخلاط  (6)   ذريت المعدن : طليت الذهب منه
(7) السكة : حديدة منقوشة يضرب عليها الدراهم  (8)  مشوفاً : مجلواًً 
(9) أشور : تحزيزات  (10) أرّث : أوقد
(11)  إجترح : إرتكب  (12)  سولت : زينت 
(13)  طواغى : رءوس ضلال (14)  الطغام : الأوغاد الذين يخدمون بطعام بطونهم

 (15) الذلاذل : أسافل القميص الطويل
(16)  لاتسف : لا تطلب الأمور الدنيئة
(17)  عافت : كرهت  (18)  زلفى : قربى
(19)  كائن : كم كثير (20)  تشعبته الهموم : إستولت عليه  
(21)  نُطُس : مهرة (22)  سَََرّّوا همه : أزالوه
(23)  طاوية : جائعة  






ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

لمحات من أحد طواغيت التاريخ (ستالين) (الإله.. الذي أنكروه) - عزت عبد العزيز حجازي - من كتاب جبروت الطاغية وطغيان الحاشية)

¨   بعد أن أطلقوا عليه في حياته أسماء كثيرة، كادت أن ترفعه إلى مقام الآلهة أو الأنبياء.. فقد قالوا عنه أنه:(أحب شعبه؛ وأنه "ال...

المشاركات الشائعة أخر 7 أيام