السكون بكّر؛ والفراغ أسود؛ والوادي نائم؛ والنسمات خجلة؛ والشمس واهنة.
ولكن؛ صدره يرتفع في شهيق؛ ينتابه شعورا (لا سبيل إلى مقاومته) بخطر ما وشيك.
و(الدرعي) يرهف السمع لصوت غير عادي؛ قادم من جهات عديدة وراء الجبل؛ يشبه الهدير؛
أو الأزيز؛ مستمراً في دأب؛ تصاحبه اهتزازات كالزلازل الخفيفة؛ غير المحسوسة تحت الأقدام.
يقول لصديقه؛ إن كان يسمع شيئاً.
يرهف (الحلبي) أذنيه؛ وعيناه تتحركان كهوائي رادار؛ يؤكد شكوك صديقه.
يتفاجأ الصديقان بعدد من الدبابات يتجه من الوادي؛ قاصداً الحي؛ يدخل من
جميع الإتجاهات. وفجأة؛ أصوات شظايا تصفر؛ غاضبة كالسيوف؛ وطائرة تحوم؛ تطلق صواريخ
كالسهام النارية؛ تمهيداً لدخول الدبابات؛ ولولا أن أرض الحي؛ هشة؛ رخوة؛ تبتلع
أكثر الصواريخ (وشظاياها) لأبيد كل ما تبقى من أحياء. هكذا هى الأرض صديقة الإنسان
الأبدية.
تدير إحدى الدبابات برجها؛ يخرج وميض من فوهة مدفعها.
صفير دانة يشق الهواء؛ يصرخ (الحلبي)؛ يتدحرج وراء جدار مهدم (رأسي؛ رأسي).
ينطلق (الدرعي) إلى جوار صديقه؛ مذعوراً؛ يتفقد رأسه؛ فيجده سليماً تماماً
(لقد مرت الدانة من فوق رأسه مباشرة؛ ونظراً لسخونتها (الشديدة) وسرعتها؛ خلخلت
الهواء فوق رأسه؛ وضغطته عليها من أعلى إلى أسفل؛ فشعر كأنها خلعت رأسه من بين
كتفيه؛ وجعلته يتحسس جسمه؛ غير مصدق).
يشغل الصديقان مدفع هاون تجاه طابور الدبابات. صحيح أنهما لا يتمكنا منه
بصورة مؤكدة؛ إلا أنهما (على الأقل) يعرقلا سيره؛ أو مواصلة تقدمه جهتهما؛ وها هو
الطابور يبتعد في نصف دورة؛ حتى يخفيه الغبار الكثيف؛ مطلقاً نيرانه في جميع
الإتجاهات. وفي لحظات؛ تعود الطائرة لتدك الحي دكاً؛ ليسري ظلاً كئيباً من الوحشة؛
ويتحول الجو إلى اللون الأصفر؛ وكأن الحي ضُرب بالغازات السامة؛ وهو لم يُضرب بها
بعد. لكن الحجم الضخم من القنابل الذي أُلقى عليه؛ كل ذلك؛ يلون الجو باللون
الأصفر؛ مع رائحة نفاذة للبارود.
بلا شعور؛ يسابق (الدرعي) الزمن والعُمر؛ للوصول إلى أنقاض منزل مهدم؛
تنبعث من تحتها آنات وتوجعات؛ لكنه يعود (مرة أخرى) على صرخة صديقه؛ المصاب بدانة
مباشرة من دبابة تسقطه صريعاً؛ ممزقاً إلى أشلاء.
بجوار الشهيد؛ تتجمد الدماء في عروق (الدرعي)؛ يفقد الإحساس بالزمن؛
بالرهبة. الخوف يتلاشى؛ فلا يمكن أن يكون ما يمُر به حقيقة؛ لابد أنه يحلم؛ حلماً
كئيباً؛ سخيفاً. أو أنه يشاهد فيلماً (سينمائياً) من أفلام الحرب؛ أبطاله يمثلون
أمامه. أما هو؛ فيشاركهم مشاركة وجدانية فقط. ولكن الإحساس بالإنفصام عما حوله
يعطيه القدرة على الحركة؛ كأنه (كومبارس) في المأساة الرهيبة؛ وصديقه إلى جواره لا
يتكلم. بل تتعلق عيناه بذراع دامية؛ بنصف رأس؛ بفك علوي؛ بأسنان؛ بسلسلة وصليب
مدميان؛ وفي الجو رائحة بارود تهب كالصفعات؛ في الوقت الذي لا تمتان فيه عينا
(الدرعي) بصلة إلى البكاء؛ الحزن؛ الخوف؛ بل الصدمة الكاملة.
بعد قليل؛ يعدو (الدرعي) إلى داخل (حُفرَة) وسط الأنقاض؛ بيده مدفع رشاش؛
ومن مكانه يشاهد عدة جنود(بشاريين)؛ يمسكون بعدد من المقاومين؛ ويمثلون بجثث
آخرين؛ وقد صار الحي كثكنة عسكرية.
يغطي (الدرعي) الحفرة بأنقاض أثاث
وخِرَق بالية؛ وهو ينتظر الموت أو الأسر بين لحظة وأخرى. يتذكر زوجته وولده الصغير
وأمه؛ فتدمع عيناه؛ ثم (أنا ميت؛ ميت؛ لا محالة؛ شئت؛ أم أبيت؛ الآن؛ أم بعد
حين؛ فكم سوف أمكث في حفرتي تلك بدون طعام؛ ولا ماء؟!. وحتى لو كان معي؛ فهل يكفي
حتى تتحرر "سوريا" من الطاغية؛ فأعود للحياة مرة أخرى؟!. وطالما أن
الأمر هكذا؛ فإنه أجدر بي أن أموت وأنا ثوري حُر؛ يظفر بالشهادة؛ من أن أموت في
حفرتي بلا ثمن؛ وهو عار عليّ؛ فأبي إمام مسجد؛ وقد أنشأني قبل وفاته نشأة دينية؛
تستوجب التضحية والفداء).
يحزم (الدرعي) أمره؛ يأخذ قراره (إن خروجي من الحفرة وأسري؛ أو قتلي؛
لابد أن يكون له ثمن؛ أقتصه من عمر البشاريين).
يتيمم (الدرعي) بالتراب؛ يصلي ركعتين؛ يطمئن نفسه بسكينة من عند الله. وفي
الساعة الواحدة ظهرا؛ يحس بهدوء وصمت مريبين؛ على غير العادة في الساعات الماضية؛
فيقرأ الفاتحة والتشهد؛ ويدعو الله أن يسترها معه؛ ثم يشرع في الخروج من الحفرة (لا
يجد صعوبة في ذلك). فيظهر النور أمامه؛ ويتناهى لسمعه أصوات لا يميزها؛ فتزداد
دقات قلبه اضطراباً؛ تعلن له بأنه على بُعد خطوات من الشهادة.
يخرج (الدرعي) من وراء الأنقاض؛ يمسك سلاحه بكل قوة؛ يهمس لنفسه (سلاحي هو
الأمل؛ العزوة؛ الصديق؛ بعدما تركتني الدنيا؛ وسأتركها أنا بعد لحظات).
يتملكه ذهول؛ دهشة؛ من هول ما يرى (يا إلهي؛ إنهم جنود بشاريين برتبة
رائد؛ يشهرون أسلحتهم تجاه عدد من المنبطحين أرضاً؛ رجال ونساءً وأطفال).
يتقدم خلف هذا المسرح القتالي؛ وهو لا يبعد سوى خمسة أمتار عن ظهور العدو؛
فيتوقف عقله للحظات؛ وكأن الله قد استجاب لدعائه؛ فأهداه صيده الثمين أمامه (وليس
من خلفه؛ أو من فوقه) لينال منه بكل سهولة؛ وكم بدا سعيداً بذلك؛ وفي أقل من
ثانية؛ يحصد العدو بسلاحه الحبيب؛ فيتساقط الجنود (صرعى) بأسرع مما تخيل؛ ولكنه لا
يتوقف عن الضرب؛ بل سلاحه هو الذي توقف؛ فقد نفذت ذخيرته؛ وفي ثانية؛ قام بتركيب
الخزنة الإحتياطية؛ وأعاد الضرب في الجثث؛ رؤوس بعضها انفصلت عن أجسادها.
إنتابت (الدرعي) نشوة (لم ولن تتكرر في حياته) فقد أحس بأن دماء (الحلبي)
لم تذهب سُدى.
جرى من كانوا أسرى في كل اتجاه؛ أما (الدرعي)؛ فتناهى لسمعه صوت محرك دبابة؛
فغادر المكان إلى حفرته؛ حيث وجدها فرصة لتكرار قصاصه. وفي الحفرة؛ إنتابته مشاعر
متحررة؛ فرحة غامرة. ولكن؛ ممزوجة بالحزن على فقد صديقه. كما صار لا يشعر بلحظة
واحدة من الخوف؛ فمهما يحدث له بعد ذلك؛
فقد أخذ بثأر صديقه مقدماً. وبعد قليل؛ سمع هدير دبابات؛ وأوامر بلهجة عالية؛
وبلدوزر يجرف الأنقاض؛ فرأى أنه من الحمق استعمال سلاحه هذه المرة؛ فالمكان صار
كثكنة عسكرية أشد من الأولى؛ فألهمه تفكيره بأن يهيل التراب على سلاحه؛ يخفيه
تماماً؛ فبدونه يمكنه (إن وقع أسيراً) إنكار ارتكابه لتلك المذبحة.
إنتهي (الدرعي) من مهمة دفن سلاحه سريعاً. وحاول أن يحكم إغلاق حفرته؛ فلم
يمهله جنديان نظرا إليه من خلالها: اطلع يا ولد.
خرج من الحفرة؛ فركله ضابط أوقعه على الأرض: أين سلاحك؟!.
-أنا بدون سلاح.
صفعة؛ رأى فيها الشرر يتطاير من عينيه ألوان؛ في خيوط متصلة: جيش الدولة
بدون سلاح؟!.
-إنني من المدنيين.
صفعة: لماذا ارتكبت المذبحة؟!.
-أنا لم أخرج من الحفرة أصلاً؟!.
صفعة: إذاً من فعلها؟!.
-أنا سمعت ضرب نار وانا في الحفره.
صفعة: ألم ترى أوصاف من قاموا بذلك؟!.
-قلت لك؛ لم أخرج من الحفره أصلاً.
ركلة في مؤخرته: صدقني؛ سوف نعرف.
قام الضابط بتفتيش (الدرعي)؛ فلم يجد شيئاً؛ ومن جديد: متزوج؟!.
-نعم؛ ولي ولد.
-وأين هما؟!.
-ماتا في القصف.
طلقة في الرأس: أعيدوه إلى حُفرته.
****
قصة قصيرة بقلم
عزت عبد العزيز حجازي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق