الثلاثاء، 3 مايو 2016

الزغاريد والشهيد.... قصة قصيرة.. عزت عبد العزيز حجازي



قريباً .. ظلت تنظر إلى الصورة .. تتأملها كأنها تراه لأول مرة .. الفتى الجميل الذي كان صبياً يتيماً يخترق الأزقة ، يلعب ، يقفز ، يحجل مع أقرانه ، يتعثر ، يسقط قلبها هلعاً ، تهرع إليه مندفعة كسهم طائش ، تضمه إلى صدرها الفزع ، الصبي الحلو ، عذب اللسان الذي كانت تدور به على أولياء البلد ، ثم تستقر عند ضريح كان يألفه ، ويحس به منه (يا الله؛ لم يبق منه إلا صورة؛ وحفنة ذكريات؛ وبقايا قمر منثور داخل قماش حرير يتاهب للرحيل). قالت هذاا وهى تسحب قدميها الثقيلتين؛ وتدخل حجرتها المزينة بصورة الكعبة؛ وآيات من الذكر الحكيم. ثم أعادت النظر إلى صورة الفتى؛ والإبتسامة تملأ وجهه.
كان الفتى يقرأ الكتب والجرائد؛ ويحكي لها عن بطولات يحلم بحملها. عن وطن لا يعاني القهر والنزيف والآلم؛ ينتهي إلى الإستشهاد في سبيله. أما هى؛ فكانت تراه على هذه الحال؛ فتسرع تقرأ (الكرسي) سبع مرات؛ و(المعوذتين) سبع مرات؛ وتضع المصحف قرب وسادته. ومع أنها لم تفكر بأن الجنون قد احتل رأس ولدها؛ إلا أن الجنون كان قد أوشك أن يشل قواها؛ حين انتبهت (ذات ليلة) إلى الفتى؛ وهو يستغيث من خطر الرصاص الذي كان ينهمر؛ وخطر البارود والنار والدم. وفي نفس اليوم؛ لم تدع شيخاً أو ولياً إلا وزارته طلباً للمعونة.
لم تدرك معنى الحلم. لكنها حاولت ان تربط بين ما حدث؛ وبين عودة الفتى قمراً منثوراً.
لم يكن لدى المراة سوى الحجرة الصغيرة بحوش المقبرة. والماكينة تدور؛ والأيام تدور. ولما نما عود الفتى؛ وصار قوياً. صار قلق الأم عليه أكبر؛ وهو يحمل الكتب والكراسات والأقلام؛ ويتحدث عن وطن تحت الشمس؛ وعن براح فسيح في مدينة النور والنجوم الزاهرة؛ وعن أشياء كبيرة؛ لا تدرك لها معنى في أحيان كثيرة. أما الفتى؛ فقد صار يجلب معه العديد من الأصدقاء؛ يقضون الساعات (في الحوش المزدان بإصص الصبار) وهم يتحدثون تارة بصوت هادئ؛ وتارة بأصوات حادة؛ عالية؛ والفتى يحدث أصحابه عن الوطن المنشود.
يا الله؛ لقد انطفأ اللهب من عينيه المرسومتين بعناية ربانية؛ وهو يحكي ويرسم لها الأجواء المفعمة بالحلم والخرافة والتاريخ. فماذا ستقول للنسوة عن الفتى الذي صار طيراً من طيور الجنة؟!. وعروسه التي كانت ستزف له؛ كيف ستتلقى النبأ؟!. 
كم من المرات حاولت أن تقنعه بالزواج؟!. وكم من مرة أرجأ الأمر؛ معللاً السبب بأن الحياة ستكون أجمل عندما تنتهي المعاناة؛ وتشرق الشمس.
(تزوج يا ولدي؛ لأفرح برؤية ذُريتك قبل أن أموت؛ تزوج؛ فقد بدات أشعر بالذنب).  وفي هذا اليوم؛ كادت تقفز فرحاً عندما همس لها (سوف أدلك على الفتاة التي أحب).
كانت الأم تراهما طائرين يزهوان بالعشق والمحبة والوصال؛ روحين متآلقين. وظلت تكرر كلما التقى الفتى بالفتاة (حقاً إن الأرواح جنود مجندة). وبسرعة أعدت له حجرة أخرى؛ وملاءة من القماش الحريري الرقيق؛ كي تغطي بها حفيدها في المستقبل. فالملاءة مباركة؛ لأنها ملاءة الفتى في طفولته. ولم تنس أن تزور بالمناسبة اكثر من ضريح لولي من أولياء الله.
أمسكت الأم بيد العروس؛ أدخلتها بكامل زينتها إلى الغرفة التي توهجت بهاءاً؛ وعُبقت بالبخور؛ وروائح المارود. وانتظرت النسوة بصمت رحيل جثمان الفتى الذي استقر عند القبر المقابل لغرفة العُرس.
تقدمت العروس؛ تلثم زهرات بلون الدم والنار. ووضعت الأم ملاءة الحرير على جسد الفتى؛ وتطلعت إلى العروس؛ واستدارت وهى تهتف للرجل (لنحتفل). وانطلقت منها زغرودة؛ فزغردت العروس؛ ثم زغردة النسوة؛ وفي تلك اللحظة؛ أحست الأم بأن قماش الجسد (المسجى بدمه) قد أصبح بحجم السماء؛ وغطى الأفق الذي بدا رائقاً؛ وان طيراً (لا مثيل لبهائه النوراني) يخرج من بين طيات القماش؛ ويفرد جناحيه؛ محلقاً صوب الجنة.





ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

لمحات من أحد طواغيت التاريخ (ستالين) (الإله.. الذي أنكروه) - عزت عبد العزيز حجازي - من كتاب جبروت الطاغية وطغيان الحاشية)

¨   بعد أن أطلقوا عليه في حياته أسماء كثيرة، كادت أن ترفعه إلى مقام الآلهة أو الأنبياء.. فقد قالوا عنه أنه:(أحب شعبه؛ وأنه "ال...

المشاركات الشائعة أخر 7 أيام