عدت بعد سفرٍ طويل، امتد لبضع سنوات، اشتقت خلالها إلى جلسات الرصيف
المجاور لبيتنا القديم، بيت جدي ووالدي، فقدت في سفري أيام الطفولة، ويفاعتي
ومطلع الشباب، واحترقت لجلسات عم ناصر، وزياراته، وخفة ظله، عندما كان
لايرضى إلا أن يصنع الشاي بنفسه، وله بذلك الحق، فلا شاي فوق شاي العم ناصر
كان الرجل ودوداً، أفضل من كثيرٍ من معارفنا، وبعض أقربائنا، عاشرت رجلاً
يشبهه في غربتي، ولكن شايه ليس كشاي ناصر، وطباعُهُ كذلك .. كنت أوهم نفسي
أنني أجالسه، وذات يوم قَرَعَ جرسُ الشوق صوته، وهيأت حوائجي، واشتريت الهدايا
واشتريت لعم ناصر هديةً يحبها، فأنا أذكر شغفه بخاتم الفيروز، أخذته
في جملة ما أخذت، وفي السفر كانت الشمس تشرق علينا في الطائرة، وهي تعبر
بنا المحيط الأطلسي من جهة جنوب أوربا، فقلت في قرارة نفسي أن الشروق
الذي يليه، سيكون لشمسٍ عربية، على أرضٍ عربية، أسعدني هذا الخاطر .
وهناك في بيتنا الجميل، بيت جدي حططت رحالي، وأخذت الخاتم وعلبة شاي
انكليزية، وذهبت لعم ناصر، وألقيت بنفسي عليه، تطارحنا الغرام القديم
وشربنا الشاي الياقوتي، ورجعت أيامنا الخوالي، مع إشراقة وجه الرجل، الذي
تقدم به العمر، شاب شعره، وتغضّنَتْ وجنتاه، ولكن المرح القديم، بقي كما هو
وبقي ذوقه الرفيع، وأدبه الجم ..
ودعت عم ناصر، ولم أدْرِ أنه لقاءنا الأخير، سافرت مرةً أخرى، وطال بي الأمد
هذه المرة، وعدت وأنا مثقلٌ بالهموم، أخذت خاتماً فيروزياً آخر، وعلبة شاي انكليزية
وأسرعت إلى شغفي القديم، إلى بيت عم ناصر، أفرغ فيه سحب الهموم
وهناك خاطبني أكبر ابنائه بحزن ومواساة بقوله : عمك ناصر انتقل إلى رحمة
الله منذ سنتين، ولم نشأ أن نخبرك لمعرفتنا بما تكنه للوالد من محبة ..
تمر السنون، ولا تزال صورته تحضر بذهني، كلما تذكرت جمال طبعه، ونكهةَ شايه الياقوتي .
محمد المطلق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق