أيها
الناشىء النجيب : أمعن فى النظر إلىّ ترنى جمعت بين جمال الظاهر ، وحسن الباطن ،
غِلاف مُتقَن الصُّنع، مُحكم الوضع ، بديع الرُّواء ، يضمنى كما يضمّ الدرّ صدفُه
، والسيف قرابُه ، والجسم إهابه . ويحفظنى كما تحفظ الدروع صدور الفوارس ، والجفون
أحداق العيون ، وبين الدَّفَّتين(1) صفحات ناصعة ، أبهى من صفحات البدور ، وألطف
من وجوه السرور ، وأصقل من مرآة الحسناء ، وأصفى من أديم السماء . خُطّت عليها
سطور كأنها وشْى البُرْد المُعْلَم ، أو الرَّوض المُنَمنْم (2) أو وشَم ظاهر كف ،
فِرندُ (3) سيف ، أو نقش فى دينار ، أو دجىً ، فى نهار . وقد تحسبنى لبديع صفاتى،
وباهر آياتى أُعْزَى (4) إلى الدر المخزون ، او الجوهر المكنون ، أو أمُت بصلة النسب
إلى المسك الأحم(5) والعنبر الأشهب ، لا وربَّك ، إننى من طينة حمئةٍ تتقزر (6) منها
النفس ، ويصدف عنها الطرف ، فلا تعجب أن إتسعت مسافة الخُلف ، بين الأصل والفرع .
فالنخلة الباسقة ، نواة صغيرة ، والشجرة الوارفة ، بذرة حقيرة ، والمسك الأذفر ،
بعض دم الغزال× . والذهب الإبريز (7) معدنه الرَّغام (8) وأصل الإنسان
حمأ مسنون (9) ، أليس من الفحم الماس الثمين ؟ ، ومن دودة القز الدِّمَقس(10)
المُفتَّل؟ ومن النحل مُصَفَّىَ العسل ، وهل يخرج النرجس إلا من بصل ؟. فإن كنت
وضيع الحسب ، فإنى جم الأدب ، وإن فاتنى شرف العظاميين (11) ، فما عدانى فخر
العصاميين (12). وإن أعوزنى كرم الآباء ، فقد حزت كريم الثناء . وإن حُرمت المجد
المؤثل ، والعزّ التالد (13)، فلىَّ الأثر الباقى ، والذكر الخالد ، فلا يمنعك ما
عرفت ، من دقة نسبى ، وضَمة حسبى ، أن تلتقط دُرّى ، وتجنى ثمرى . فقد قال الحكماء
: ( اللؤلؤة الفائقة ، لا تهان لهوان غائصها ، الذى إستخرجها ، والحكمة ضالة
المؤمن ، ينشدها حيث يجدها ) فلا تغّتر بقول
الأغرار(14)
الذين يعيشون فى الأوهام ، ويتباهَوْن بالعظام(15) ، فليس الشرف بالآباء والأجداد
، وما كل ماجد يلد الأمجاد ،. وهأنذا أكشف لك عن محاسنى ، وأقفك على منابى ،
تحدثاً بنعمة الله ، لا فخراً يرفعة أو جاه:- أنا أنس النفس ، وربيع القلب ، وغذاء
الروح ، ومِلاك العقل ، ووعاء الحكمة ، وظرف الظَّرف ، أنا خزانة الدر ، ومعدن
التبر ، وكنز التحف ، ومعدن الظَّرف ، ومتحف الآثار ، ومرآة الأخبار . أنا جلاء
الأقذاء ، وصقال الأصداء ، وبرء الأدواء ، ونظام الآراء ، ومبعث الرشاد ، ومطلع
السداد ، أثقف العقل ، وأقوم الفكر، وأهذب الأخلاق ، وألطف الطباع ، وأرهف الشعور
، وأرق الوجدان . أنا الأنيس فى الوحدة ، والسمير فى الوحشة ، والرفيق فى البدو
والحضر ، والأليف فى الإقامة والسفر ، أسروا (16) الهم ، وأكشف الغم ، وأجلب
الهناءة والسرور ، وأدفع السآمة والفتور . أنا صديق وفىّ ، وخِلّ أمين ، أصون الود
، وأحفظ العهد . لا أميل إذا مال الزمان ، ولا أحول (17) إذا حال الإخوان . أنا سمير الملوك والأقيال (18)
، وحلية السوقة والأغفال(19) ، ومربى المتعلمين ، وأستاذ الأستاذين ، ومعلم
العلماء ، ومرشد الحكماء ، الناطق بكل لسان ، والناقل عن كل إنسان ، كم حويت من
قصة شائقة ، وفكاهة سائغة ، وعظة بالغة ، وحكمة بارعة ، ومثل سائر ، وشعر رصيف(20)،
ونثر طريف ، تنشرنى وتطوينى ، وتُدنينى وتُقصينى ، فلا أعصى لم أمرا ، ولا أقتضيك
جزاءً ولا شكراً . أنا رسالة السلف إلى الخلف ، ووديعة الآباء والأجداد ، إلى
الأبناء والأحفاد ، لولاى لم يبعث العلم من رمثه ، ولا عرف الإنسان يومه من أمسه ،
ولتقطعت به الأسباب ، وجهل الأحساب والأنساب . نظرت فى أخبار الأولين ، وآثار
السالفين ، فجمعت لك أشهى الخبر ، وأطيب السير ، ولباب العلوم، وعصارة الأفكار ،
سائغة جنية . لم تبذل فيها جهداً ، ولم تلق كداً ، فاتخذنى رفيقاً ، أُصَّفِكَ
ودادى ، وأُجنِك شِهادى(21) .×
(3) فرند السيف : وشيه (4) أعزى : أنسب
(5) الأحم : الأسود من كل شىء (6) التقزر : التباعد (7)
اللإبريز : الخالص
(8) الرغام : التراب (9)
الحمأ المسنون : الطين المنتن
(10) الدمس : الحرير (11)
العظاميون : الشرفاء بالوراثة
(12) العصاميون : الذين يسودون بأنفسهم (13)
التالد : المال القديم
(14) الأغرار : غير المجربين (15) العظام : المراد بها الأموات من الآباء والأجداد
أسرو : أك
(16)
أسرو : أكشف (17) حال : إنقلب
(18) الأقيال : من هم دون الملوك (19) الأغفال :
الذين لا حسب لهم
(20) الرصيف : المحكم (21) الشهاد : اللعسل فى الشمع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق