الجمعة، 28 أبريل 2017

جائزة الماء قصة للفتيان تأليف السيد القماحي

جائزة الماء
قصة للفتيان
تأليف 
السيد القماحي



       دخلَ إلينا الفصل ، الأستاذ زكى .. توقف بُرهة صامتاً، ونحن فى صمت أيضاً ، نتطلع إليه ، وهو يتطلع إلينا .. ثم قال:
- إستعدوا .. سنقوم برحلة إلى الصحراء .. متىَ ؟.. يوم الجمعة القادم ، إستعدوا .
     أضاف ، فأسكت الهمهمة :
- ستكون مُنافسة قوية، بين كل مدارس الإعدادى والثانوى بالمُحافظة .. تسألون منافسة عن ماذا ؟ .. عن أفضل موضوع تكتبونه عن الماء ، هذه هى المُنافسة . وتركز نظر الأستاذ على وجهى ، ثم قال كلمة واحدة بهدوء : (أكتُب)!
     كان يعرف أنى أُكثِر من القراءة والإطلاع ، ومن نظراته ، تأكد لى أنه يخُصُّنى ، فأسعدنى ذلك، وضاعف من ثقتى فى نفسى .      إنطلقت أسئلة الزملاء:
- الموضوع عن الماء.. والرحلة إلى صحراء بعيدة ؟ .. لماذا ؟ ولماذا لا تكون إلى نهر ، أو بحر .. ليكُن فى كل الأحوال.. نحنُ مُستعدون .. نعم مُستعدون !
     عُدت إلى البيت ، وأخبرتُ أُمى بخبر الرحلة ، وبخبر تكليفى – تقريباً – بكتابة موضوع عن الماء ، فقالت :
- وأنا مُستعدة أيضاً.. سأجهز لك شراباً وطعاماً ، وحلوىَ تتناولها مع زملائك هُناك .
     وفى يوم الرحلة ، حملنا مع طعامنا (جركلاً ) كبيراً مُمتلئاً بالماء ، وانطلقت بنا سيارة كبيرة باكراً جداً، كانت تقف فى إنتظارنا أمام باب المدرسة ، وانطلقنا نحن بداخلها نُغنى ، بأغانى تعبر عن بهجتنا بهذه الرحلة ، لم نشعر بالساعات الطويلة التى قضيناها عبر الطريق ، الممتدة حتى وصولنا .
     لم يستجب لنا الأستاذ فوراً ، أن ننطلق جرياً ، على الرمال ، بمُجرد نزولنا من السيارة ، فقد كانت الصحراء المُنبسطة أمامنا ، والنظيفة ، بهوائها النقى المُنعش ، تدعونا بشدة للمرح ، تحت أضواء الصباح الهادئة.. لقد فضل الأستاذ تناول إفطارنا أولاً . أكلنا وتناولنا الحلوىََ ، وشربنا من (الجركل )  ، ثم تركناه قُرب السيارة وانطلقنا نجرى ، كما لو كُنا فى سِباق للجرى ، أو كعصافير الصباح المنطلقة ، وشاركنا الجرى الأستاذ زكى ، وحتى سائق السيارة، مُتحدياً سِنه الكبيرة، رأيناه يُناضل من أجل اللحاق بنا سعيداً ، مُستجيباً مثلنا لدعوة جو الصحراء الساحِر فوق الرمال الشاسعة المُسطحة ، بلا نهاية ، والتى كانت تجذبنا بسحر لا يُقاوم .
     جرينا كثيراً ، وتوغلنا ، وبعدنا جداً عن السيارة ، حتى بدت لنا من ورائنا ، أشبه بلُعبة صغيرة ، ألقوها بإهمال على الرمال
     ثم توقفنا نلهث ، عندما توقف الأستاذ زكى بصورة مُفاجئة، وهو يُشيرُ بإصبع السبابة إلى خطوط مُتعرجة على الرمال ، ورُحنا نتطلع معه إليها.، بفضولٍ وتركيزٍ - هل ترون هذه الخطوط ؟ .. إنها من نبش الفئران !
     سألت :
- لماذا تنبُش الفئران هُنَاَ ؟ .
- لتبحث عن غذاء الملوك ، الذى ينمو هنا ، كما يبدو ، وهو نوع من الفِطر الثمين ، ينمو فى الصحراء ، لكن تحت الرمال ، يسمونه أيضاً (الفجع )، أو (الكمأة ) .
- لكن لماذا يسمونه غذاء الملوك ؟
- لقيمِته الغذائية العالية ، ولطعمِه اللذيذ ، ألذ من لحم الضأن! وأيضاً لإرتفاع سعرِه .. الكيلو الواحد منه بألف درهم بالتمام!
     سأل أحدُنا مازحاً:
- وهل إذا أكله أحدنا صار ملِكَاً ؟!
     فأجابه الأستاذ :
- نعم ، إذا دفعت ألف درهم ثمناً للكيلو الواحد منه ، وأنت لن تستطيع ! ولذا لن تكون مَلِكَاً!     ضحكنا وسألنا أيضاً :
- كيف ينمو غذاء الملوك هنا ، وليس فى هذه الصحراء قطرة ماء واحدة ؟
- بماء المطر .. هذا المطر الغنى بالمعادن ، الذى يهطِلُ مع حدوث البرق والرعد ، نعم ، يهطِل هذا المطر ، مُختلطا أيضاً بمعادن هذه الصحراء الخِصبة ، فينبُتُ هذا الفطر ، الثمين والغنى بالمعادن الصحية ، لكنه يظل مُختفياً تحت الرمال ، ولا يعرف مكانه سوى البدو ، سُكان هذه الصحراء ، والفئران !
     صاح بعضُنا :
- إذاً هيا نبحث عن هذا الغذاء الملكى !
- هيَّا !
     وإنطلقت أيادينا ، تعمل النبش فى الرمال، بنشاطٍ حماسى عجيب ، كأننا نبحث عن كنز ! وخطوط الفئران كانت دليلنا، ونحن نبحث فى محاذاتها، وبالقرب منها!
     فجأة .. صاح أحدنا ، بفرح الصبية الصِغار ، وهو يرفع ذراعه عالية ، بشىء يمسكه فى يده :
- وجدته .. وجدته.. هاهو غذاء الملوك!
     تحلقنا سريعاً حول زميلنا هذا ، وأخذنا نُحدق فى هذا الشىء ، الذى يُشبه ثمرة البطاطا، إلا أنها كانت ثمرة مُستديرة بنية اللون.
     تناولها من يده الأستاذ ، وراح يعرضها أمام أنظارنا رافعاً ذراعيه ، وأخذَ يشرحُ :
- هاهو غذاء الملوك ! المُسمى الكمأة أو الفجع ، وأخذ يُعدِّد لنا مزاياه .
     صاح أحمد مازحاً
- هيا نأكُله إذن لنصير ملوكاً ! .. أقصد نقسمه فيما بيننا!
     فقال الأستاذ زكى:
- ليس قبل غسل هذه الثمرة بالماء .
     وتذكرنا الماء ! وتذكرنا أننا عطشى ، بسبب الأكل ، والجرى ، وتناول الحلوى .. فأسرعنا نجرى إلى ( جركل ) الماء ، عائدين فى إتجاه السيارة ، حيث تركناه بجوارها على الرمل .     وكانت مُفاجأة فى إنتظارنا هناك .. إختفاء ( الجركل ). أو بعبارة أخرى : سرقة (الجركل ) !
     وتردد السؤالُ الْمُحَيْر :
     ( أين إختفى (الجركل) ؟ ، وكيف؟ والصحراء من حولنا خالية تماماً من البشر ، وليسَ على ظهرها مخلوق واحد سوانا الآن !
     قادنا هذا السؤال إلى التطلع تحت أقدامنا، كماجالت أعيُننا هنا وهناك  ، ولاحظنا بدهشة أثار أقدام مُمتدة من موقعنا، إلى أماكن مجهولة ، تتبعناها بأنظارنا ، ورأيناها تمتد إلى الجهة المُعاكسة ، لتلك الجهة ، التى إنطلقنا إليها ، حين جرينا وابتعدنا عن السيارة ، فى أول الأمر.
     فوراً تكَون فريق منا، قادَهُ الأُستاذ زكى، بينما ظل فريق آخر واقفاً وحارسا ً، ومُنتظراً بجوار السيارة ، هذه المرة ! كُنت أنا ضمن فريق الأستاذ ، ورُحنا نمشى ونمشى على الرمال ، على هَدىْ آثار الأقدام ، إلى أن وصلنا خلف هضبة رملية مُرتفعة ، كانت تخفى ما وراءها، لنشاهد بعد صعودنا لها، على بُعدِ مسافةٍ ، خياماً مُنتصبة ، وأغناماً ترعىَ ، وكَلباً ، ما إن أحسَّ بوجودنا ، حتى أطلق نباحه مُدوياً ، كأنما عثر على لصوص، واندفع يُهاجمنا ، وكأنما ليُبلغ عنا بنباحه المدوى ! فخرج له رَجُل من خيمة ، ونهرهُ بصوت أقوىَ ، فأسكته فوراً ، فعادَ إلى الأغنام ، خافضاً ذيله ، وخرج رجُل آخر من خيمة مجاورة، وهو يحملُ فى يده بُندقية .
     شعرنا وكأنما كان خروجه بها ، مُتعمدِاً للقائنا !
     إقتربنا من الرجُلَين، وألقينا التحية ( السلامُ عليكُم ) ، فأجابا على تحيتنا ، بهدوءٍ وصرامةٍ .
     توجه الأستاذ إلى أكثرهما طُولاً :
- كُنا فى رحلةٍ ، يا أخا العرب ، وتركنا (جركل ) مُمتلئاً بالماء عند سيارتنا ، ثم جرينا فى الصحراء وابتعدنا ، وعندما عُدنا إلى السيارة ، فلم نجد (الجركل ) !
.. فقال الرَّجُل :
- يعنى أنتم بحاجةٍ للشربِ !
- نعَم !
     فنظر الرجُل إلى زميله ، حامِل البندقية، فتحرك هذا بهدوءٍ، وريبةٍ ، وهوَ ينظرُ إلينا من جانبٍ ، مُتفحصاً ، ودخلَ خيمته ، وعاد منها ، بقربةٍ ممتلئةٍ بالماءِ ، قدمها لنا صامتاً ، فأخذنا ، نتداولها فيما بيننا ، لنشرب واحداً بعد الآخر ، شُرباً مُمتزجاً بالخوفِ والقلقِ !  
     شكرناهُما ، وأسرعت أنا لأقول :
- هُناك زملاؤنا ، ينتظروننا  ، بحاجةٍ ليشربوا أيضاً !
     فقال الرجُل سريعاً:
- هاهىَ القربة .. خذوها ، لكن عليكم أن تدفعوا ألف درهم ثمناً لها !
     قالها الَّرَّجُل بجديةٍ ، وملامحٍ صارمةٍ ، صرامة لا تقبل المساومة ! .. ولاحظنا الرجُل المسلح يتحرك بهدوء  ، ليقف خلف ظهورنا ، كأنما ليُحاصرنا ، أو يمنعنا من الهرب !
     أضاف الرَّجُل الطويل ، الصارم :
- على أىِّ حال ، عليكُم أن تدفعوا المبلغ المطلوب كاملاً ، سواء أخذتم القربة أم لا .. لقد شربتم منها !
     ولم يكُن هُناك مجال للتفكير  ، أو إظهار للغضبِ ، أو للإستنكار ! ودفعنا أيادينا فى جيوبنا ، لنُخرج كل ما بها ، ولكن كانت حصيلة ما جمعناه ، لا يفى بنصفِ المطلوب ، أو حتى رُبعَهُ ، ( لقد وقعنا فى فخٍ ) هكذا شعرُ كُلُُ منا !
     رفض الرَّجُل المسلح قبول ما قدمناه، رفضاً قاطعاً ، وقال:
- ألف درهم ، لا تنقص فلساً واحِداً !
     فقال الأستاذ ، كاتماً غيظه :
- كُنا يا أخى ، فى رحلة إلى صحراءٍ ، وليس إلى سوقٍ ، فلم نحمل معنا نقوداً كافية!
     فقال الرَّجُل الطويل ، بنفس الحِدةِ والصرامةِ :
- إذا .. قدموا ساعاتكم وهواتفكم ، وكل مافى جيوبكم ، لتفوا بثمن القِربَة !
     وقد فعلنا .
     قدمنا لهما كُلَّ ما لدينا ، نقوداً وساعات، وهواتف ، وكاميرا ، وحتى نظارة شمسية ، كانت على وجه أحدُنا !
سألتُ الرَّجُل فى غيظ:
- هل ننصرف الآن ؟
- نعم .
     وتحركنا للإنصراف مُبتعدين ، نحمل فى نفوسنا ، غضباً مكتوماً ، وفى أيدينا قِربة وفى نفوسنا مرارة !
     بعد عدة خطوات، سمعنا ضحكات عالية ، صادرة من الرَّجُلين خلفنا .
     وعندما إلتفتنا إليهما، رأينا الرجل الصارم المسلح يُنادينا، ضاحكاً لأول مرة ، والرَّجُل الطويل يُشيرُ بيدهِ  إلينا :
- تعالوا يا أبطال المدينة .. يا شباب المُستقبل ، تعالوا ! هيَّاَ!
     أثناء رجوعنا إليهما.. لمحنا صبياً فى مثل عُمرنا ، يخرُج من خيمة ، ( حامِلاً بين يديه جركلُنا ) ، عرفنا فيما بعد أنه هو الذى كُلِِّفَ بالتسلُّل ، وأخذه من السيارة ، ثم أعاد إلينا الرجُل الطويل ، نقودنا ، وأشياءنا كُلَّها كاملة ، وهو يقولُ فى عِتابٍ وودٍ :
- هل أغناكُم غذاء الملوك عن الماء ؟!
     فهمنا المقصود ، واعتذرنا مرة أخرى ، وعاد إلينا مفهومنا عن أخلاق البدو العرب ، وقد تأثرنا بهذا الودِ المُفاجىء، المُصاحب للكرم العربى ، واتفقت أصواتنا على قولٍ ، صِرنا نُرددُهُ :
- نعم .. صدََقت يا أخا العرب ، نعم الماء هو الكنز الأغلى من غذاء الملوك ( وجعلنا من الماء كل شىء حى).. صدق الله العظيم .
     قال الرجًل بلهجة صديق :
- كُنا نراقبَكُم عن بُعدٍ .. من خلف الربوة الرملية ، ونراكم تجرون وتنهمكون بحثاً عن هذا ( الفجع ) ! .. مخلفينَ وراءكُم متاعكُم، وهذا الماء الذى جئتم به ! على العموم ، لولا حاجة زملاؤكم المنتظرين لشرب الماء الآن، لكنتُم اليوم ضيوفنا .
- شُكراً .. شُكرا ً ، هذه أخلاق العرب فعلاً .
     ثم تكلم حامِل البندقية ، قائلاً :
- نحنُ نُقيمُ فى الصحراء ، ساهرين بالسلاح لوجود بئر ماء هنا، نحرسُها ونُحافظ عليها ، لا خوفاً من سرقتها ، بل خوفاً من تلوثها ، أو ردمها ، بهبوبِ الرمالِ عليها ، فنحنُ نحيا بها ، وتحيا حيواناتنا وطيورُنا!
     فقال الأُستاذ زكى:
- صدقت يا أخا العرب .. نعم .. الماء هو أغلى من (الفجع).. الماء هو الحياة !
     شكرنا الرَّجُلَين مرة أخرى .. وتصافحنا بحرارة ، وانصرفنا بخجلٍ ، نحملُ القِربة الهدية ، (وجركلُنا) فى أيدينا، وقد برز فى عقلى الآن، أفضل عنوان ، جعلته لموضوع المسابقة،  الذى سوف أكتُبُهُ : ( الماءُ أغلىََ من غذاءِ الملوكْ ) ! .. وحازَ على جائزة الماء!
تمت




ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

لمحات من أحد طواغيت التاريخ (ستالين) (الإله.. الذي أنكروه) - عزت عبد العزيز حجازي - من كتاب جبروت الطاغية وطغيان الحاشية)

¨   بعد أن أطلقوا عليه في حياته أسماء كثيرة، كادت أن ترفعه إلى مقام الآلهة أو الأنبياء.. فقد قالوا عنه أنه:(أحب شعبه؛ وأنه "ال...

المشاركات الشائعة أخر 7 أيام