الأربعاء، 7 مارس 2018

إنتظار - إبراهيم محمد


سأمت الوقفة في الشرفة لتلمحه حين يأتي . الجو بارد والجيران عيونهم حارة . أي أنثي في هذه الأرض معرضة للنهش أيآ كان سلوكها . في الغرفة من الداخل أثاث حديث لزوجة شابة . مرآة كبيرة طالعت فيها وجهآ أبيضآ مشربآ بحمرة في الخدين من آخر ما تبقي في علبة البودرة , وفي العينين رموش مكحولة . الأم أورثت ابنتها حب التكحل . تقول في حكمة : الكحول وإن كان زينة , ألا أنه زينة حشمة . مدت أصابعها لتخوض في شعرها , ثم أبتسمت في رضا .
أرتمت علي الفراش في ملل . رأت في أعلي الحائط المقابل صورة زفافها . أبتسمت من جديد , تتذكر الفرح . ليلة الدخلة . الخجل الذي أعتراها . المرة الأولي . حلاوة وخجل وألم . ضحكت لأرتباكها . حمدت الله في سرها أن زوجها كان صبورآ , لم يؤتي ما تسمعه عن غيره من المتهورين في هذه الليلة فيقضي علي بذور الثقة في نفوس الزوجات قبل أن تنبت .
العرس من شهرين . لا تصدق أن ما مر من ساعتها ستون يومآ . ذاقت حلاوة العشق وأنستها أن الزمن هو آخر ما يمكن التفكير فيه حين يشعر الأنسان بالحب والأمان .
لا ريب أن تأخره اليوم لهدية يهاديها بها . أول الشهر , وفي ليلة الأمس كان مسرورآ ويكاد من السعادة أن يطير . ليلة جنونية . بدا كلاهما يفهم الآخر جيدآ . لا ريب أنه سيأتي بهدية , يؤكد لها أنه علي العهد دائمآ . عهد المحبة والصفاء .
في التليفزيون لا جديد . كل الأفلام شاهدتها في صباها , والأخبار كئيبة لا تصلح أن تذاع لعروسين في أول فرحتهما . فقط الخيال مأوي للأنسان حين يعجز العالم أن يحتويه . إن كان سعيدآ فله في الخيال ما يكمل سعادته , وإن كان مهمومآ فله من الخيال ما يطرح حزنه ويبدله لهناء وأمل فيما سيقدم من الأيام .
أعاد لها الخيال صورتها وهي طالبة في الجامعة . كانت بحق جميلة أيامها – ولا زالت – مطمع للعيون والكلمات . كلية الأداب مقر الجميلات دائمآ . لم تكن بالمجتهدة ولا الفاشلة , كانت تقف علي خط مستقيم معتدل في الدراسة . وتذكرت أول الطارقين لباب القلب .
كان اسمه أحمد , متفتح جريء ذو عيون حادة . لما رأي عجز الطلاب أن ينالوا منها ألتفاتة , ألقي بكافة المواهب من الكلمات الرقيقة والشهامة الزائفة والقوة المدعاة كي يجذب أهتمامها أليه .
وبعد محاولات كاد فيها أن ييأس , ويعلن للجميع أنه قد فشل في رهانه . أنجذبت أليه . وأنضمت بقدمها ألي شلة كانت محط السخرية والنفور من الطلبة . تخرج متي يخرجون , تأكل حيث يأكلون , تضحك لنكاتهم , تهرب من المحاضرات لتنضم أليهم في الكافيهات المنتشرة في الجامعة .
وكل هذا لأجل أحمد . وحده !
ومضت الجامعة بخيرها وشرها . ومضي معها أحمد في وداع مر .
الشارع أنتابه صخب . أرتمت علي النافذة من جديد . صبية يتشاجرون , يقذفون بعضهم بالحجارة ويتبادلون سبابآ أحمرت له خدودها . أي صبية هؤلاء . ومن أهلهم !
نظرت ألي أول الطريق , ولم تجد من تنتظره . فزفرت في ضيق , وعادت في هدوء ألي الذاكرة , تجتر منها ما يجيء من الماضي .
وتوقفت محطة الذكريات هذه المرة عند البيت . بيت الأسرة . البيت الهاديء دومآ ذو الشخصيات الأنعزالية . كلآ في ركنه يغني علي
ليلاه . الأب في حساباته لمصاريف الشهر القادم , والأم للفضفضة – بكل شيء – مع الجارات , الأخوة أما في المقاهي أو في الغرف نائمون . لم تكن لها شقيقة !
تعود الأم كل مساء بعد أنتهاء المداولة . وتطرح الرأي في عريس جديد . والأجابة التي كانت حاضرة دائمآ بلا , باتت مكررة تبعث علي الريبة والغضب .
قالت الأم في حدة ذات مساء :
ـ وهل تظنين أن أموال أبيكي الوزير ستستمر ألي الأبد ؟!
غضبت من أمها . بدت الأم كمدرس أراد أرهاب تلامذته أنه لو لم يتجاوبوا معه في الدرس , لأنتهي مستقبلهم الدراسي وأنقضت أحلامهم .
رمت الكارت الأخير علي مائدة الأب , مسمعة أياها نيتها الموافقة – نيابة عنها , وع الله تعترض – علي عريس لقطة . يعمل في شركة الحلويات في قسم المحاسبة .
رأت في عيني الأب فرحة . وفي عيني الأم تحدي : كأنها تقول , هذه المرة لا حجة لك . وقعت يا فأر في المصيدة .
ووقع الفأر في مصيدة الزواج التقليدي التي طالما أرهبته . في الجامعة أذا جلست ألي الشلة أياها وأتي الحديث عن هذا النوع من الزواج , كانت تقول في حدة وبصوت عال :
ـ لأ . كله ألا هذا . لا يمكن لمثلي أن تتزوج بشخص تعرفه ليلة خطبتها .
ويضحك المحيطون في خبث . ينظرون ألي أحمد في لؤم , كأنه المقصود .
الليل ساد . وبقايا النهار التي كانت تريح الأعصاب أختفت . لم يعد سوي الغرفة والمرآة وهي . والذكريات بما مضت كانت كئيبة لها , وما ستليها أكثر كآبة رغم النهاية المعروفة .
كوب من الماء بلل الريق . تغلبت علي حشرجة الزور بأن سعلت أكثر من مرة .
أين أنت يا علي ؟! . لمه هذه الغيبة ؟! , دق قلبها في خوف . تسائلت في دهشة : أخوف عليه أم من وحدتها ؟! غلب وجهها الحياء حين أيقنت أن الخوف عليه كان المسيطر .
قالت الأم ليلة الزفاف في رقة من يعتذر عن ذنب :
ـ أتقي الله في زوجك . وأعلمي أن الحب الحقيقي لا يأتي ألا بعد عشرة طويلة .
وتركاها للعريس المنبهر بجمالها . يغالب ضحكاته الخجلة من نصيب كان يحلم به . رأت في عينيه رقة وحنان .
آخر أيام الجامعة , بدا أحمد مترددآ وهو ينتحل الأعذار للتملص من وعد لم يطلقه . قال في صوت خافت خلاف ما كان يصدره فيما مضي من أيام الصحبة والكافيهات :
ـ والله أتمني . لكن الحياة . الظروف . التجنيد والعمل . كل العوامل لا توفر لي حياة زوجية ألا بعد سبع سنوات علي الأقل .
أحست فيه بنبرة من الصدق ألا أنها أكدت أن كل هذه الأمور من الممكن تجاوزها لحبيبين وثقا في حبهما .
رد في سخرية بشعة :
ـ هذا إن كانا حبيبين أو يثقان في حبهما .
وأختفي .
أدمعت عيناها في تأثر لما تذكرت . أجترت الذكريات السعيدة لتتغلب علي هذا الحزن الكريه .
تذكرت الزوج الخجول وهو يقف يوم الصباحية في هدوء ليمد لها علي الفراش مائدة طعام مصغرة لتتناول فطورها علي الفراش ككل العرائس . بسمة عينيه وهو يناولها الفطير مغموسآ بالعسل . تربيته علي كتفها في حنان لم تعهده ألا في الأب .
دب في قلبها خوفآ مفاجيء عليه , قامت لتتحرك في سرعة لتفض توترها . تري ماذا أخره , أهناك شر ما أحاق به ؟!
دب خبط هاديء علي الباب . طالعها وجهه الرقيق , ولفت نظرها يده الحاملة علبة حمراء من القطيفة كبيرة . لم تدر ماذا بداخلها ألا أنها أرتمت عليه في لهفة .
قال في دهشة ممزوجة بالفرح :
ـ مالك ؟!
في حرارة ردت , خافية رأسها علي كتفه :
ـ أحبك ..!

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

لمحات من أحد طواغيت التاريخ (ستالين) (الإله.. الذي أنكروه) - عزت عبد العزيز حجازي - من كتاب جبروت الطاغية وطغيان الحاشية)

¨   بعد أن أطلقوا عليه في حياته أسماء كثيرة، كادت أن ترفعه إلى مقام الآلهة أو الأنبياء.. فقد قالوا عنه أنه:(أحب شعبه؛ وأنه "ال...

المشاركات الشائعة أخر 7 أيام