السبت، 23 يوليو 2016

الباب الأحمر - بقلم د. نهاد إبراهيم من المجموعة القصصية [[ الكونت دى مونت شفيقه ]]


الباب الأحمر
بيتنا مشهور جداااا.. 
بالحب، بالتفاهم، بالضحك المستمر عمّال على بطّال.. 
من المغفل الذى قال <الضحك من غير سبب.. قلة أدب؟!!>
فى رأى عائلتى أن الضحك بسبب وبدون هو الترسانة الإنسانية النووية السلمية ضد كل أمراض الزمن الهينة والمستعصية، بما فيها أنفلونزا الطيور والخنازير وما يستجد.. 
شهرة بيتنا لها قصة طويلة. مجد الأمم ثمنه غال جدا!

غريبة جدا.. خطيبى الغريب يؤيد فلسفة عائلتى ألف بالمائة وكأنه متربى معنا، وأنا.. أنا أضحك أيضا.. لكنى لا أؤيدهم إلى هذه الدرجة المذه\لة، شىء من الضحك لا يضر لكن لابد من سبب.. 
قال لى يوما.. <- ماذا نفعل بالحياة إذا لم نضحك فيها ولها ومنها وبها؟>
قلت له فى نفس اليوم.. <الضحك من غير سبب قلة أدب!> 
كنا خطيبين من النوع اللطيف.. بمعنى أننا لا نحاول مضايقة بعضنا من ناحية دقة المواعيد ونوعية الملابس وأذواق ألوانها وتحف موديلاتها، لا نحاول خلق سخافة وهمية من خلال التعليق على طريقة استخدام الشوكة والسكينة، وكل هذه التفصيلات الرفيعة التى تجلب آلاف المشاكل بين الخطيبين. لكنها لا تجرؤ أبدا على رفع رأسها لتخلق ملليمترا واحدا من هذه المنغصات السمجة بين الحبيبين.. كل ما أعرفه أننى أحب حبيبى على كل الوجوه. من حسن الحظ أنه يحمل قلب عصفورة رقيقة يهيج جناحها الصغير لحزنى، تغنى وتدعو من قلبها بالسعادة للحياة كلها، حتى للسحاب فى وسط السماء دون سابق معرفة. 
التقينا، تفاهمنا، اعترفنا، انطلقنا وارتبطنا رسميا فى لمح البصر. يوم عقد القران طلب المأذون منديلا أبيض اللون كالمعتاد. ناوله حبيبى منديل والده. اعترض المأذون وقال له..
<- أريد منديلك أنت. أكيد سيكون أكثر بياضا بلون قلبك.>
حتى الغريب اشتم رائحة نقاءه من أول نظرة..

الحق يقال إننى لا أقل أبدا طيبة عن حبيبى. قلبى حقيبة سفر ولدت مفتوحة.. الكل يلقى فيها أدق متعلقاته بمنتهى هدوء البال. لم أضع يوما قفلا عليها، لم أحتفظ بنسخة واحدة من المفتاح فى جيب سحرى. ماذا سأفعل بها وحدى؟! ما جدوى حقيبة سفر فارغة؟!! لم أسمح لنفسى يوما بالركنة فوق رف دولاب أو تحت الفراش مهجورة بلا ونيس أو جليس.. 
كنت ومازلت أنا أحب كل ما يحبه حبيبى. كان ومازال هو يحب كل ما أحبه، إلا مأزق خطير لم نجد له حلا أبدا! فحبيبى يذوب عشقا فى اللون الأبيض. معه يصبح طبقتين سميكتين من أرق ملاك لم يسمع به أحد.. من أجمل نغمة يعزفها أوركسترا الحب السيمفونى بقيادة كيوبيد المنجلى! أما أنا فأمقت هذا اللون الأبيض كمقت ابن آدم للشيطان الرچيم.. فهو مساحة عديمة الشخصية عمرها قصير، وأنا أكره العمر القصير. من صغرى لا أعرف نفسى إلا وأنا أنتشى وأرتجف وأتجلى وأصهلل فى أجمل حالاتى عندما تلتقط عيونى الجميلة أى ظل خط من اللون الأحمر النارى.. يا سلام لو تنازلت كل حقول الدنيا عن خضارها واكتسى وجهها بحمرة الخجل الدائم.. يا سلام لو صنعوا سلالم لكل رسامى الدنيا وصعدوا جماعة ليزينوا جسد السحاب الأبيض الشاحب بباليته حمراء متوهجة... يا سلام لو وقف كل مصممى الملابس فى العالم على خط واحد من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها وألبسوها بلوڤر تريكو كاروهات أحمر × أحمر... يا سلام لو...
لكن حبيبى كان يقشعر من اللون الأحمر، يتلوى أمامه كما يفرفر الطفل الصغير من وخز الحقن فى أسفل ظهره.. 
أدركنا معا هذا المأزق المخيف فى أول مناسبة تبادلنا فيها الهدايا بعد الخطوبة.. أوكى.. مسألة أذواق. لكن ماذا فى اختيار لون الأثاث والحائط فى شقتنا؟!! هنا وقع المحظور.. هو يريدها عصير قطن أبيض يقطر بياضا منقوعا فى بياض شاهق، وأنا أريدها لهاليب جهنم حمراء لا أمل فى هدايتها أبدا.. مع ذلك وبعدما شربنا فدادين من عصير الليمون لتروق أعصابنا، لم نصل إلى نتيجة أبدا. وفى ليلة رأس السنة أهدانا بابا نويل الحل من عنده، وهو يتمخطر أمامنا بثيابه الحمراء وذقنه البيضاء. فاتفقنا أنا وحبيبى على اقتسام كل شىء. نصف أبيض ونصف أحمر. وكل واحد حر فى رؤية النصف الذى يجد نفسه فيه.. 
مرت المسألة بسلام وأمان فى كل شىء إلى أن وصلنا إلى باب الشقة.. كانت لحظة من أصعب لحظات حياتنا. حبنا العظيم يتعرض لاختبار أعظم. مع باب الشقة لا يوجد اختيار.. إما أبيض وإما أحمر! 
هل أرضى حبيبى وأخسر نفسى؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ 
هل يرضينى حبيبى ويكره الباب وكل ما وراء الباب!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
شهور طويلة والزواج معطل ومتجمد محلك سر. لا أحد منا يريد التنازل أبدا. هناك أمور مع خالص الأسف لا تقبل القسمة على اثنين.. 
مناقشات، عناد، غضب، تهديدات، خصام ولا حياة لمن تنادى..
كاد الشوق يحرقنا.. 
شحوب، عزلة، أمراض، أدوية، اكتئاب، محاولات انتحار.. 
المسألة خطيرة.. 
يوما ما قصد أصحابى إبلاغى أن فتاة تموت فى اللون الأبيض تتردد بانتظام على حبيبى الوحيد.. قفزت من تحت اللحاف الأحمر وذهبت إليه.. وأخيرا اتفقنا.. أخيرا تزوجنا!

بيتنا مشهور جداااااااااااااااااااااااا
كل من يزورنا سيجد باب الشقة غارقا فى اللون الأبيض المخيف، وسيجد أيضا لافتة منيرة معلقة على قمته مكتوب عليها.. <الباب الأحمر>.. 
كلما فتحنا الباب ضحكنا وقهقهنا بصوت يجلجل على نغمات الحب.. من يومها فهمت أنا أن <الضحك من غير سبب مش كله قلة أدب!>

******************************
بقلم د. نهاد إبراهيم
من المجموعة القصصية [[ الكونت دى مونت شفيقه ]]


ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

لمحات من أحد طواغيت التاريخ (ستالين) (الإله.. الذي أنكروه) - عزت عبد العزيز حجازي - من كتاب جبروت الطاغية وطغيان الحاشية)

¨   بعد أن أطلقوا عليه في حياته أسماء كثيرة، كادت أن ترفعه إلى مقام الآلهة أو الأنبياء.. فقد قالوا عنه أنه:(أحب شعبه؛ وأنه "ال...

المشاركات الشائعة أخر 7 أيام