أوسمة الرئيس
.. ينتفض السيد الرئيس عن مقعده الحريري.. يتمطىَ تعبا.. يتلمس في ملل
دروعه الذهبية.. وأوسمته المتوهجة بملايين النجوم وهو يغمغم: يالها من أوسمة
جميلة.. شائكة.. تنغرس دبابيسها الحادة ومشابكها المسنونة في جسدى.. ومع ذلك فأنا
أعشقها.. أرتاح لآلامها.
القصر الجمهوري ينتصب كقلعة
شامخة.. ملونة وسط أحد ضواحي المدينة.. من يدخله يصاب بضآلة داخلية.. يحس
بالإنكماش.. القاعة عظيمة.. مفروشة الأرض والجدران بالرخام الملون.. القيشاني
العجيب.. تتدلى من سقوفها مشاكي وقناديل يخطف بللورها البصر.. وشباك هائل العرض..
يكشف بُستاناً عظيما.. فردوساً على الأرض.. وعند الركن مبخرة ذهبية.. تنفث في
الإيوان عبق شذاها.
.. سيادة الرئيس يتناول
طعامه في الجناح الأعلىَ من القصر.. واجهته تحمل اللون الأحمر الداكن.. بعد قليل
يحس سيادة الرئيس بثقل في أمعائه.. غازات تضرب في مُصرانه الغليظ.. يتحرك في آنين
نحو الشرفة.. يرسل عينيه نحو الأفق المُمتد.. المظلم.. ناحية تجمعات الناس.. خلف
أستار العتمة.. داخل الأكواخ والمقابر وتلال القمامة.. بينما تبدو في النهار -وعلى
هذا البعد- كنقاط سوداء ترتعش.. كتجمع نمل يتبعثر.. يتلوى.. يتصادم.. يتشتت في
منعرجات طرق معزولة.. ومنحنيات مخنوقة:إنني حقاً لا أرى شعبي بشكل واضح من هذا
المكان.. ولكنني أعرف كل أخبارهم.. وأطلع على كافة أحوالهم.. أدرك أدق أسرارهم..
كأنني أعيش بينهم.. أسكن معهم.
يقهقه السيد الرئيس.. يتأمل في سعادة
الأوسمة المهداة له من مؤسسات التنصت وأجهزة التلصص والتنكر والمباحث.. يتوقع
كالمُعتاد حضور رئيس الوزراء ليقول له في نبرات منفعلة بالتأثر.. مُختنقة بالبُكاء:
شعبكُم يا سيدي سعيد بكُم.. فخور بحكمتكم.. عاشق لحُكمُكُم.. يقضي كل أوقاته في
الدعاء لكُم بالصحة والعزة وطول العمر.
-وأنا كذلك مسرور من هذا
الشعب.. لهدوئه المُستقر.. واستكانته الدائمة.. ووداعته الخالدة. ها.. ها..
يتحرك السيد الرئيس.. يحس بأوجاع السير في
أبهاء القصر.. بسبب أثقال الأوسمة الذهبية والفضية والمُرصعة أغلبها بالأحجار
الكريمة.. وما تحدثه من رنين وصليل وضجيج إن تحرك.. أو توقف.. حتى صارت مشيته..
كما يراها في حُجرة المرايا كخبيب بقرة تدب حول ساقية: بالطبع كان لابد من قبول اقتراح
رئيس الوزراء بإنشاء وزارة لشئون الأوسمة الرئاسية.. تقوم على مهمة صيانة وتجهيز
وتنسيق وتنميق كل الأوسمة بشكل دوري لتطوير هذه العملية الوطنية.. ودفعها للأمام
في خطة شاملة تحمل للجماهير والأجيال الأصالة والمُعاصرة بوسائل تمزج ما بين أمجاد
الماضي وعزة الحاضر وفخر المستقبل.. ىلهذا كان يجب أن أقبل اقتراح الشعب بإقامة
أضخم متحف على وجه هذه الأرض ليضم بكل الفخر هذه الأوسمة وعرضها.. وحفظها
للأجيال.. كل الأجيال.. لتكون شاهداً على ما بزلناه من جهد.. وما أبدعناه من فن..
وما قمنا بصناعته بأيدي وخامات وطنية.. وجهود ذاتية.. متحف يقام على مساحة لا تقل
عن نصف المدينة.. توضع فيه صوري وكل أوسمتي منذ بداية الأبواب حتى الجُدران
والأسقف والقاعات.. إنني بالطبع لم أكن أنوي أن أشرد نصف سُكان المدينة إلى حيث
الهضاب والخرائب وأحواش القبور.. ولكنهم من أجل إقامة المتحف الوطني طلبوا مني أن
يرحلوا.. ألحوا على الخروج.. وهل يمكن لي ومهما كانت عظمتي أن أعارض أمنيات شعبي
وأحلامه؟!.
يتحرك سيادة الرئيس بثقل أوسمته المنشرة
بكثافة على صدره وظهره وكتفيه وزنديه.. ثم يتمدد بجانب الشباك الكبير لتبرق كل
الأوسمة تحت أشعة القناديل والمشاكي والنجوم.. وتبدو إشعاعاتها المتلألئة..
الملونة.. وكأنها تتصادم وتتراقص في ترف ودلال.. دعت سيادة الرئيس يتأملها.. ويهمس
في غبطة: كم أنا رجُل عظيم.. رئيس غير عادي.. حاكم منفطع النظير.
ومع هذا كان يضايق سيادة الرئيس فشله في
رؤية أوسمة ظهره.. ما لم يدخل غرفة المرايا المُصممة لهذا الغرض بخبرة أكبر البيوت
العالمية.. وأعظم خبراء دوليين في التخصص البصري.
يسترعي انتباهه وسام نُقش عليه سيف ذهبي..
إلتفت حوله بقع من الدم.. حاول أن يتذكر مناسبته.. ولكنه لم يستطع.. لم تسعفه
ذاكرته.. وعلى الفور طلب استدعاء وزير الأوسمة.. وهو يحدق في الوسام ويتمعنه: ما
هذا الوسام أيها الوزير.. هل تتذكر؟!.
-بالطبع يا سيدي.. إنه وسام
النصر المنتصر.
-في أية مناسبة قلدت هذا
الوسام؟!.
-بمناسبة انتصاركم المُظفر
على الشياطين في حرب الغيلان.
-متى وأين حدثت هذه الحرب..
ذكرني يا وزير.
-حدثت يوم كُنتم تحتفلون
بتأييد الشعب لكُم.. يوم كان الناس عن بكرة أبيها وعلى طول البلاد وعرضها يرقصون
ويهتفون ويحتفلون ويغنون ويقهقهون فرحاً بثورتكُم المُباركة.. بالمناسبة
التاريخية.. وفجأة ظهرت افواج الغيلان.. مواكب المتسولين في ميادين الأفراح واسواق
الرقص والهتاف.
-ماذا كانوا يريدون هؤلاء
الحثالة؟!.
-لا شئ إلا تعكير الصفو..
إغتيال الفرحة.. خرق المناسبة.. تهديد المناسبة القومية.. وخطة خصي جماهير الشعب
عن آخره.
-من يهدد مناسبة قومية كهذه..
لابد من إبادته هو وكل من تسول له نفسه مس حجر من أحجار ثورتنا.. أو المس بورقة من
أوراق خطتنا.. أو الخوض في سيرتنا بسوء.
-وهذا ما فعلته يا سيدي في التصدي لأطماع الغيلان.. حين أصدرت مرسومكم
التاريخي بإبادة هؤلاء الغيلان عن آخرهم.. عن بكرة أبيهم.
-بالطبع أيها الوزير حتى
نمضي في تنفيذ خطة الخصي الخمسية.. لنوقف وللأبد آلام الرعية.. ويتحقق حلم الحكماء
والعلماء.. ها. ها. ا. اها..
يتمدد سيادة الرئيس في قصره الشامخ.. أمام
مجلسه العامر.. وسط القاعة الكبرى الزاخرة بالكبراء.. والأعيان.. والأعوان..
والشعراء.. وأصحاب الأقلام.. الرئاسية المزركشة. الليل والأنس يملأ القلوب.. يزين
الوجوه.. الطعام فياض.. الشراب أنهار.. الراقصات في أزهى الحلل.. الأنغام تملأ
الجو.. الرقص والطرب على قدم وساق.
سيادة الرئيس يتكئ على الوسائد.. يتغطى
بأكداس الأوسمة فوق الأرائك.. تحف به الحسناوات والعبيد والأغوات والحشم..
الراقصات بحركة الأرداف.. وهز الصدور تلفت نظره.. تخطف بصره.. الحرس من ورائه
بالبنادق.. والعيون والتوجس والإنتباه.
سيادة الرئيس يحس بشكة في مؤخرته.. يتلمس
مكانها.. يكتشف وساماً يتدلى من تحته.. يتلفت نحو وزير الأوسمة الذي انخطف لونه..
وانحبس صوته: متى كان هذا الذي يتدلى من خلفي إلى تحتي؟!. تكلم أيها الوزير إن كُنت
تعلم؟!. وأخبرني ماذا تعني هذه الدائرة البيضاء المرسومة فيه؟!.
يتقدم وزير الأوسمة في ثقة.. وقد انتفخت
أوداجه.. وترهل وجهه.. واتسعت ابتسامته التى شققت وجهه بالخطوط والتجاعيد: تقلدتم
هذا الوسام التاريخي يا سيدي.. ليلة أن مررتم بالمُصادفة على مستودعات الطعام
بالقصر.. مطابخه.. بعد أن شممت رائحة غريبة تهب من ناحيته.. فاكتشفتم أن ثمة
فائضاً كبيراً في كميات الخبز.. بعد أن نسى أصحاب الشأن في هذه المطابخ أن أرغفة
الخبز صارت من الأشياء المنقرضة في مطابخ القصر.. فأمرتم يا سيدي في لحظة تاريخية
حميمة.. زاخرة بحبكم للشعب.. وإيمانكم بمستقبله الصحي الساطع. أمرتم بتوزيع الخبز
على الجماهير.. وكان فيض خير.. طاولات محبة.. عجائن عطف وإنسانية ومودة. فهاجت
الدنيا.. وتحزم الراقصون والراقصات.. وغمرت الأنوار الطرقات.. ودوت الهتافات
الداوية.. الدعوات والإبتهالات التي تدعو لكُم بالصحة الوافرة.. وطول العمر..
والعزم الدائم: ها. ها. ا. ا لقد تذكرت الآن فقط حكاية هذا الخبز الذي تعفن وفاحت
رائحته الكريهة.. فطلبت أن يقدم لحيوانات القصر من الجياد والطيور والغزلان والقطط
والكلاب فرفض المُختص البيطري ذلك.. واقترح أن يقدم الخبز للناس حيث أن لديهم
أمعاء تبلع الزلط.. تهضم الحديد.
يتقدم فوج جديد من الشغراء والوراقين..
يقفون عند أبواب القصر.. ينتظرون الدخول.. يأذن لهم سيادة الرئيس بالدخول.. وهو
يعتدل في البهو الأعظم.. وحوله الوزراء والمحافظين.. يضعون أيديهم على الصدور..
يميلون رءوسهم على النحور.. حتى تصل لأحزمتهم الذهبية.. يقبل الشعراء والوراقون
واحد وراء آخر.. ليصطفوا ويتغنون بالرئيس الأعظم.. يصفون عدالة حكمه.. عظمة
هيبته.. طبنجته.. خرطوشه.. قوة ساعده.. رقة قلبه.. ومع رجفة الحماس وهدير التصفيق
صاروا يتمايلون.. يهتزون.
يهز سيادة الرئيس رأسه في
غبطة وارتياح.. وفجأة.. يتغير لونه.. يلتوي خط من الألم على وجهه.. يشير إلى وزير
الأوسمة وهو قائم عند رأسه.. ينحني الوزير حتى يكاد ينقلب وقد جحظت عيناه..
وانتفخت عروقه: أمر سيدي.
-ألاحظ منذ الصباح -وأنا
أستعرض أوسمتي الأمامية والخلفية- أن هناك بعض الخلل في توزيع أوسمة الصدر.. حدث
ذلك حين أحسست بثقل في جانبي الأيمن.. وحين بحثت الأمر مع خبير المواقع الوسامية..
وبعد الفحص اكتشف أن في أحد جانبي الصدر ثماني عشر وساما.. بينما على الجانب الآخر
عشرين وساما.. تصور.. تصور أيها الكائن الذي تسمى وزيراً للأوسمة.
-إذن فإن ثمة جانب لديكُم
ينقصه وسامين حتى يستقيم الأمر.. ويعتدل الميزان.
-بالطبع أيها الوزير
الغافل.. كيف بالله عليك لم تلاحظ ذلك الخلل.. وهذا التناقض؟!.
-المغفرة يا سيدي.. العتب
على النظر يعلم الله.
-المهم الآن أن تدبر -وعلى
الفور- وسامين.. وإلا فسوف يختل توازني..
هل تريد أن يختل توازني؟!.
ينتفض الوزير.. ينخرس.. ينحني.. يتوجه وهو
يكاد ينفطر وخلفه طابور معاونيه ومساعديه وجمهور وزارته إلى رئيس الوزراء.. فالأمر
ليس هينا.. والموقف بهذا تعقد.. ودخل مرحلة صعبة وخطيرة.
رئيس الوزراء يعقد – وعلى الفور – اجتماعاً
طارئا.. موسعاً يضم كافة الوزراء والخبراء والمدراء وأصحاب الفكر.. وكبير صياغ
القصر.. وكالعادة تم استدعاء طواقم التشغيل بمصنع الأوسمة.. والبدء في تشغيل أقسام
المصنع بكل طاقته.. دون هوادة.. وبلا بلادة.. ومع هذا كانت ثمة مشكلة تعطل السير: ما
هي المشكلة بالضبط يا سيدي رئيس الوزراء؟!.
-لابد من تحديد مناسبة..
إختراع سبب لتقديم الوسام الأول والثاني.. لأن سيادة الرئيس -وكما تعرف- لا يقبل
أي وسام مالم يعرف مناسبته.. هيا فكروا أيها السادة واخترعوا مناسبة.
تترنح الرؤوس.. تزوغ النظرات.. تتسع دائرة
التذكر وفحص كافة الأعياد والمناسبات.. خاصة بعد استدعاء قائد الجيوش.. كبير
العسس.. نقيب التجار.. رئيس الصناع ليدلي كل منهم بدلوه.. ثم يدوي التصفيق حين
يتقدم رئيس الوزراء وخلفه تتقاطر المواكب حتى يصل إلى كرسي الرئاسة.. ليقلد سيادة
الرئيس الوسام الأول وسط الهتافات الحادة.. والزغاريد المتصلة.. الصارخة.
يتأمل سيادة الرئيس الوسام الجديد.. يجسه
بيده.. يرفعه إلى عينيه.. تتلألأ ألوانه على وجهه الباسم.. يسأل: ما مناسبة هذا
الوسام الجميل؟!.
-لا شك أن سيادتكم تتذكرون
يوم أن أمرتم بفتح أبواب السجون بعد أن اكتظت بمن فيها.. ولم يبق موضع لقدم داخلها..
ثم أمرتم بالإفراج عن نصف نزلائها للفقر الشديد في ميزانية الأمن والأمان؟!.
-أتذكر ذلك.. رغم إقبال
الشباب على دخول السجون.. وتمني العيش فيها.
-ورغم لفتتكم الإنسانية..
ورحمتكم الفياضة.. رفض غالب السجناء قرار الإفراج.. وأصروا على البقاء في السجن..
وإلى الأبد.. وقدموا لذلك الإسترحامات والمناشدات والرجوات للبقاء.. وحين لم يستجب
لهم مسئول.. باعتبار أن الإفراج نفحة رئاسية.. وكرماً ساميا.. قاموا بمظاهرة على
طريق الغوغاء.. مُدعين أن الحياة خارج السجن لا تزيد عن فاقة وعوز وبطالة.. مع
أننا وعدنا الجميع أنهم بعد الإفراج سوف يمارسون انشطتهم التي قادتهم إلى السجن
دون محاسبة.. أو مؤاخذة.. بل إن مخلوقاً في السلطة لن يدوس لهُم على طرف.. حتى لا
يوقف حالهم.. ويعطل عيشهم.
-جحود.. ونكلران.. وقلة
أصل.. وسوء خلق.
-تماماً يا سيدي.. ولكن قبل
أن يفلت الأمر من أيدي الرجال الساهرين على أمن وأمان البلاد.. أمرتم سيادتكم قائد
الجيوش بقمع المظاهرة.. بسحق الغوغاء.. فنسف السجن من جذوره وهدمه على رؤوس
ساجنيه.. لقد كُنتم يا سيدي القوة التي قضت على الأوغاد.. فأعادت للبلاد الأمن
الرقيق.. الأمان الوردي.. الجميل.. لهذا.. ومن أجل هذه المناسبة التاريخية
الرائعة.. المتآلقة.. قرر الشعب أن يرفع إليكم هذا الوسام.. وسام النظام والسلام.
-ها. ها. ا. ا عظيم.. هذا
شئ جميل.. هذا يعني أنني أنا الذي أعدت
للبلاد النظام والسلام.. ولولاي ما كان الأمان قد عاد.. إنني بكل سرور أقبل هذا
الوسام.. الثمين.. الجميل.. ولكن مع إبداعاتنا في تصميم الأوسمة.. يجب أن نبدع في
جلب الضرائب.. وجباية الأموال.. لأنه كما تلزمني الأوسمة تلزم خزانتنا أوراق
الدولار.. تبرع الأشقاء والأغنياء لكي نخفف عن كاهل الخزانة إسراف الإنفاق.. وخواء
البنوك.. وألا ننسى من يخدمون الجمهورية.. هيه.. وحفظ الله شعبنا ممن يحاول إثارة
الإضطرابات.. حفظنا الله من الرؤوس العنيدة.. العيون المفتوحة.. من الفلاسفة
والشعراء والخطباء والمجانين والعلماء.. يحفظنا اللهم ممن يثير الإضطرابات..
ولكن..
-ولكن ماذا يا سيدي؟!.
-أين الوسام الثاني الذي
سيحقق التوازن في صدري.. أين هو يا رئيس الوزراء.. وأنت أيها الوزير البليد.. هل
نسيته.. وهل في مقدورك أن تنسى الآلام التي يتحملها صدري.. بسبب نظرك الأحول..
وبصيرتك العوراء؟!.
ينحني وزير الأوسمة.. يهرول خارجاً وخلفه
يضطرب سير كبار وزارته وحرسه وهو يهمس لنفسه في ألم: لا وزير في هذه الجمهورية
يعاني مثلما أعاني من تلك المفاجأت المفجعة.. والتقريع المؤلم.. ويا خساره.. كل
الوزراء ينعمون بالعطايا والهبات والعز.. إلا أنا.. أنا الذي أعيش في انتظار
استدعائي للوم والتقريع.. للتسبيخ والتلبيخ والتوبيخ.. لعن الله كل أوسمة الدنيا..
ولعن الله من اخترعها ووضعني في أعمالها ومشاكلها. -
يتجه الوزيرأمام موكبه
المترنح إلى كبير صياغ القصر.. وهناك يكلفه بصناعة وسام جديد لسيادة الرئيس المفدى..
ثم يسرع إلى اجتماع عاجل.. طارئ بمجلس الوزراء: أيها السادة لابد من إيجاد
مناسبة.. إختراع حادثة.. وحتى لا أرهق تفكيـــركم طرأت على رأسي فكرة.
=أسعدك الله يا سيدي رئيس الوزراء.
وراح وزير الأوسمة يزغرد ويصفق.. ويهتز في
طرب وسعادة.. وهو يتحدث وكإنه يهذي: إني ومن كثرة التفكير في اختراع المناسبات..
واختلاق الأحداث كاد تفكيري أن يصاب بالشلل.
=إن تفكيرك مُصاب بالشلل
حتى من قبل أن تصبح وزيراً للأوسمة.
-المهم الان أن نسمع فكرتك
للوسام الجديد يا سيدي.. وليس شرحاً لشلل تفكيري.
-فكرتي في الحقيقة تعبر عن ظاهرة.. أصيب بها شعبنا.. وأصبح مُدمناً لها..
مُغرماً بها..وهى عشقه للطوابير.. عادة سيئة يمارسها في كل المواقع ومُختلف
الأنحاء دون فائدة.. وبلا مبرر.. لهذا لابد من تصميم وسام لهذه الظاهرة الغريبة
حتى يمكن القضاء عليها. وهكذا يا سادة يجب أن تكون سياسة الحكومة في علاج كافة
الأمراض الشعبية -والعلل الجماهيرية- تحت ظل رئيسنا المفدى.. وتوجيهاته الملهمة
ونظراته الثاقبة.
يدوي التصفيق.. تعوي الهتافات حتى يصل
الموكب إلى القصر الجمهوري: هذا الوسام جميل وثمين.. ولكن ما مناسبته؟!.
-هذا وسام مكافحة الطوابير
يا سيدي.
-اي طوابير تقصد يا رئيس
الوزراء؟!.
-الطوابير المُصطنعة التى
يخلقها أعداء الشعب لتشويه صورة الشعب. نعم. نعم. يا سيدي.. هذه الطوابير التي
تمثل أوراماً في تاريخ تراثنا.. سرطاناً في صرح حضارتنا.
-غريب هذا الشعب الذي أحكمُه..
والذي يهوى دائماً ألعاباً غريبة.. ويختلق اشياء شاذة تضيع وقته.. وتنهك قواه.
-نعم يا سيدي.. لهذا كان
لابُد من ابتداع هذا الوسام الرئاسي للقضاء على تلك الظاهرة الشاذة.. الغريبة..
-ها. ها. ا. ا. جميل جدا.. ولو أني من ناحية اخرى أرى أن هذه
الطوابير تعلم الناس الصبر والجلد والنظام والإحتمال.. ولكنني أعتقد أن لدينا
وسائل أخرى يمكن أن تعلم الناس هذه الفضائل.
يرتفع هدير التصفيق.. تعوي الصرخات.. ترتفع
الهتافات بحياة الرئيس.. ومضت الأعياد تشتعل والإحتفالات تزدهر حتى تكشف للحكومة
أن ثمة مجاعة تجتاح البلاد.. وأن الجماهير صارت تلتف في اتحاد اجتماعي مؤثر حول
مقالب القمامة.. وأوراق الشجر.. بينما سيادة الرئيس في اجتماع يومي مع الأوسمة..
الأوسمة التي حكمت عليه ان يظل واقفا.. لأنه كلما جلس انغرزت دبابيس الأوسمة الخلفية
في لحم مؤخرته.. فيقفز واقفاً وهو يقهقه: أشعر بالغبطة.. أحس بلذة مسئوليتي تجاه
شعبي عندما أقف.. وأظل واقفاً على قدمي منذ الصباح وحتى الليل.. حتى يدرك الجميع
ما أبذله في سبيل وطني وشعبي من جهد وعطاء وتضحية.. ولكن من أنت يا من اقتحمت على
الرئيس خلوته.. وكأنه يقيم داخل وكالة بلا أبواب.. مالذي تريده مني أيها الشيخ؟!.
-أريدك أن تعرف أيها الرئيس..
أن أحوال المجاعة زادت بالبلاد.. اصبحت وباءاً يفتك بالعباد.. حتى صار شعبكُم
جثثاً بلا أكفان.. فاضطر أن يخرج عارياً للطرقات.. أريدك أن تعلم أيها الرئيس بزيادة
حوادث خطف الأطفال.. واختفاء القطط والكلاب.... وأن الهتافات تحولت إلى آنات..
والتصفيق أصبح لطماً ونواحا.. تراكم أمام أبواب القصر الجمهوري.
ينتفض الرئيس من الغضب: هذا خارج عن
النظام.. إنها مؤامرة لتعكير الجو.. لهز المقعد.. أن لا أوجد هنا لتلقي الشكاوي..
فأنا الرئيس صاحب المفام الرفيع.. وهناك رئيس للوزراء ووزراء وجيوش من الموظفين
مكلفون بالعمل.. إن الرئيس أيها النمل لا يضيع وقته من أجل منغصات أفراد.. لا ينكد
على روحه من أجل أزمة عابرة.. حالة طارئة.
ينعقد مجلس الوزراء في جلسة عاجلة..
طارئة.. غير عادية.. ضجت بأعراض التشنج وتقلبات الإضطراب: ماذا ترون في حل هذه
العقدة الجديدة.. التي لم تخطر لنا على بال؟!.
-لا شئ يا سيدي رئيس
الوزراء غير تصميم وسام جديد يعبر عن عكس الحال.. ويرمز إلى تحسن الأحوال..
وعموماً فإن الإنسان لا يولد وعلى جسده قميص.. أو يلفه سروال.. فتلك الأشياء كانت
اختراعاً آدميا.. ولا زالت.
-هكذا هى الحقيقة..
فالطبيعة دائماً عارية.. فلا طير يرتدي ثوباً.. ولا حيوان يلبس حذاءا.. ولا سمكة
ترتدي قفازا.. هكذا يجب أن يعلم الرئيس.
-عموماً فإن تصميم وسام
لهذه المناسبة يكون من الذهب.. ومرصع بالجواهر.. يمكن أن يقنع سيادة الرئيس
المُفدى بما نقول.. ومالا نقول.
-المهم أن يصدر مرسوماً
رئاسياً بقانون بتحرير الجماهير من قيود النسيج.. من سجن الجلود المصنوعة التي
طالما قيدت أجسادها.. وحجبت عنها دفء الشمس ونسمة الهواء.. وأرهقت ميزانية البلاد
في اشياء هى ضد الطبيعة.
-المهم الآن أن يعبر الوسام
الجديد عن هذه الحقائق العارية.. أن يكون تصميمه واضحا.
يسرع خبراء الأوسمة بتجهيز أوراقهم
وألوانهم وقوالبهم وأدمغتهم لابتداع الوسام الجديد الذي يتناول -ولأول مرة- في
التاريخ الإنساني مسألة العري.. قضية التجرد من الجلود الزائفة.. والعودة
للطبيعة.. ولكن على غير العادة يطول التفكير.. يحتجب الإبداع.. يتأخر ظهور رسم
للوسام الجديد.. الذي يمثل في صناعته أرقى صناعات الجمهورية التي أعطتها وبلا حدود
الشهرة العالمية.. حتى إن معرض الأوسمة في البلاد صار مزاراً سياحياً يستقبل الأجانب..
ويتيح للخزانة العامة أن تستقبل حفنات العملات الأجنبية.
يسري القلق في اجتماع مجلس الوزراء..
والرعب في صدر رئيس الوزراء وتابعه وزير الأوسمة الذي عادت له تقلبات المعدة وآلام
الإسهال.
يقترح رئيس الوزراء توسيع اجتماع مجلس
الوزراء.. ليضم ممثلي طوائف الشعب العاري حتى يمكن أن تتدفق الإقتراحات والأراء
والأفكار.. كما تتدفق مياه الصرف الصحي بكل صخبها.. العكر.. لكن لا فائدة.. كل
الأفكار أصابها الجدب.. والأراء أصبحت مثل تراب المقابر.
إنعقد الإجتماع الموسع.. وفجأة أصيب
بالخرس.. حتى كاد وزير الأوسمة أن يغرق في إسهاله الغزير.. ولم يكُن هناك بد من استدعاء
زعيمة الرقص الوطني للإستنارة برأيها..
بخبرتها في هذا المجال.. ورؤيتها الثاقبة في أنشطة الرياضة العارية.. وعلى الفور
ألقت بثيابها تحت أقدامها.. وتقدمت لمنصة الإجتماع كما ولدتها أمها.. وهى ترفع
يدها بعلامة النصر.. وسط زلزال من التصفيق والهتاف: لا تقولوا أن الناس صارت لا
تملك شراء ثياب.. لهذا خرجوا للشوارع عرايا.. فتلك حجج واهية اخترعها الخلق للخروج
من ثيابهم.. للخلاص من قيود السراويل.. بالعكس فإن ما حدث من عري صار يملأ
الطرقات.. هو رغبة شعبية.. إرادة جماهيرية.. مع أن ما حدث سيكون وبالاً على مهنتنا
الراقصة.. فإنني أقترح -وبهذه المناسبة- أن يسارع رئيسنا المفدى في هذه المناسبة
العظيمة.. وذلك بأن يكون وجه رئيسنا هو النموذج الذي يرسم على وسام العري الجديد.
يدوي التصفيق.. تشتعل الزغاريد.. تهدر الموسيقى
في أرجاء مجلس الوزراء.. ينقطع - على الفور - نزيف الإسهال من مؤخرة وزير
الأوسمة.. يخرج إلى الإجتماع -ولأول مرة- دون سروال.. يرتفع النشيد القومي..
والسلام الجمهوري.. ينادي بحياة الرئيس.. وعظمة شعبه الذى انسجم -دون شعوب العالم-
مع الطبيعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق