الخميس، 27 أبريل 2017

الحقول المعلقة قصة للفتيان تأليف الكاتب الكبير السيد القماحي

 الحقول المعلقة
قصة للفتيان
تأليف الكاتب الكبير
السيد القماحي

     خرجَ صالح من البيت مفزوعاً ، عند سماعِه أصوات إستغاثة.. صرخات نِساء ، وصيحات رجَال ، شاهدْهُم وهُمْ يُهرولون فى الشارع ، ويطلبونَ النجدة ، والنجاة من الله .
وكانَ أهل جزيرته جميعاً ، قد خرجوا من بيوتِهم ، وانطلقوا يجرون فى شوارعها ، وحاراتها الضيقة ، المؤديةُ إلى شاطىء البحر، حيث تجمعوا هُناك وراحوا ينظرون عبرَ مياه البحر الواسِع ، ويرفعون أيديهم إلى السَّماء لإنقاذ أبائهم !.. وقد عَلِمَ صالح ، أن قارباً قديماً مُتهالكاً ، قد إنقلب فى البحر ، أثناء عبوره إلى الشاطىء الآخر ، وألقىَ برُكابِه فى الماء ، وكان مُعظمهُم من شباب الجزيرة الهارب ، والمُهاجر سِراً وعَلناً ، مُغادراً جزيرته إلى الأبد !
     لم تكُن هذه الحادثة هى الأولىَ .
     فقد صارت تجرى مُحاولات عِدَّة هذه الأيام ، من الشباب، وظلت تجرى سِراَ على قدمٍ وساقٍ ، لركوب هذه القوارب ، الصغيرة والمُتهالكة ، ويدفعون مُقابل ذلك كل أموالهم، ثم بعد ذلك ، يدفعون أرواحهم !
     وبدلاً من الوصول إلى البلاد الغنية ، فى أوروبا وأمريكا ، التى تشدهم إليها أحلامهم ، يصلون بسرعة إلى قبورهم تحت الماء !
     بدأت تحدُّث هذه المُحاولات ، بعد أن كشَّرَتْ مياه البحار والمُحيطات عن أنيابها ، وأخذت تزحف ، شيئاً فشيئاً ، لتكتسح أمامها مساحات الأرض ، وتجتاح الحقول والمزارع وتُدَمِرُ الأشجار والمنازل .
     وشيئاً فشيئاً ، صارت مِساحة الجزيرة تتقلص مع الأيام ، وتضيق بسُكانِها ، ويَشِحُ الرزق فيها ، ويزدادُ الفقر ، وينتشرُ الجوع بين السُّكان ، الذين تكاثرت أعدادهم ، وتموت حيواناتهم وطيورهم  ، لأنها لا تجد غذاءها من الحّبِ والنبات .
     لهذا إضطربت الحياة إضطراباً ، فى هذه الجزيرة ، التى أطلقوا عليها إسم ( أرض البشر ) . وكانت من قبل تنْعَم بالغذاء الوافِر، والأمن والأمان . عندما كانت أعدادهم قليلة .  
     إبتعد صالح عن الجمع المُحتشد علىَ الشاطىء ، واختار لنفسه رُكنَّاً هادئاً بعيداً ، وجلس قُرب الماء يُفكر ، وساعدت صالح قراءته الكثيرة ، فى علوم الأرض والفضاء ، وفى علوم المناخ الذى إختل توازُنه الآن ، بعدََّما بدأ الناس يُهملون المُحافظة على بيئتهم ويقدمون إليها الإساءة ، بدلاً من الإحسان، واستمروا ، يلوثون الأرض بالكيماويات ، والمياه بالنفايات ، والهواء بدُخان مصانعهم ، فأحدثوا ما يُسمَّىَ (الإحتباس الحرارى ) الذى زادَ من حرارة الأرض ، وزادَ ذوبان الجليد ، وارتفاع المياه فى المُحيطات والبحار .
     وأخذَ صالح يُقلب فى فكرته الجديدة المُبتكرة ، التى قد بدأ العمل فى تنفيذها فعلاً لإنقاذ الجزيرة .
     والآن جعله الحادث الجديد والأليم ، لإخوانه وأهل جزيرته، يُصَمِّم بحسم الأمر ، ويخرُج بفكرته المُبتكرة بأسرع ما يُمكن .
     وبعد أيام ، شاهَدْ الناس صالحاً ، بأحد شوارع الجزيرة ، وهو يقود سيارته النصف نقل ، وعليها نموذج عجيب لبُرج صنعه من الحديد ، والأسمنت المُسلَّح ، مما جعل الناس يتوقفون وينظرون إليه بدهشة وعجب !
     كان بُرجَاً بطوابق مكشوفة ، محمولة بأعمدة خرسانية ، وكُلْ طابقٍ أشبه بسطح بيتٍ من البيوت ، يسمَح بدخول الهواء إليه من الجوانب الأربعة .
     كان البُرج إبتكاراً ، يُعَدْ من أحدَّث الإبتكارات ، لحَل مُشكلة الأرض فى الجزيرة ، التى صارت تتآكل ، وتنكمِش تحت أمواج المَد ، الزاحف من البحر المُحيط بالجزيرة ، مما يُعرضها لخطر الفناء التام .
     وتحَلَق المسئولون حولَ البُُرج ( النموذج ) يفحصونه ، وكان أشبه بعمارة سكنية ، مُرتفعة الطوابق ، ولكن بدلاًً من إسكانها بالبشر ، أسكَنها صالح أنواعاً من النباتات والزراعات ، وجعل كل نوع منها ينمو فى طابق ، من طوابق هذا البُرج الطوابق الخمسة عشر !
     الطابق الأول جعله لنبات البرسيم ، وحشائش الحيوانات ،     الطابق الثانى جعله للخضروات بأنواعها المختلفة ، والثالث لنبات القمح والشعير ، والرابع للذرة ، وهكذا ، والطابق الأخير لأشجار الفاكهة بأنواعها !
     وكما أوصل صالح لكل طابق حاجته من الماء العذب ، للري عبر أنابيب ، كما يحدُث فى البيوت ، لم ينس توصيل الإحتياجات الضرورية الأخرى ، من طاقات الشمس المختلفة ، من حرارة وضياء وفيتامينات ، حيث جعل لكل طابق ألواحاً كبيرة من المرايا ، تعكس أشعة الشمس من خارج البرج ، لتصبها على كل نبتة ، مهما كانت صغيرة ، من نبات كل طابق.
***
     صار الناس يتحدثون عن إنجاز هذا البرج العجيب ، وفوائده العائدة على سكان الجزيرة ، وقال رجُل طاعِن فى السِّن أمام جمع من الناس :
- ألم تكُن الوقاية خير من العلاج ؟ ما الداعى لإقامة مصانع كثيرة لصُنع دباديب للأطفال مثلاً ، ولدينا الدباديب الحيَّة فى الطبيعة ، لكن بدلاً من المحافظة عليها ، رُحنا نقتلها لنلبس فراءها ، وما الداعى لعمل مُكبرات صوت ، لتدمير الأعصاب المرهقة أصلاُ ، من كثرة الضوضاء ، ولدينا الأصوات البشرية الطبيعية الجميلة ؟!
     فقال له أحد الفتيان ، وكان مُتعلماً :
- لكِن يا عَمْ حامد .. هل نمنع إبتكارات العقل البشرى ، من إنجاز الجديد ، لحل مشاكلنا ؟ .. كهذا الإنجاز الذى تراه فى هذا البُرج المُبتكر .
     فقال عم حامد :
- أنا مع أى إبتكار جديد ، يحقق الخير ، وضد أى إبتكار يُسىء للطبيعة ، وها أنت ترىَ الطبيعة تردُ لنا الصاع صاعين ، بل عشرة صاعات ، عندما أسأنا إليها ، وها نحن نراها ، تُدمر الأرض تحت أقدام المياه الفائضة ، وتشعل الحرائق فى مناطق كثيرة ، وتحطم قرى ومُدناً بأكملها بالزلازل ! .. كان علينا أن نجد علاجا لهذه الملوثات ، قبل الشروع فى إنشاء هذه المصانع.
     وافق المستمعون على كلام عم حامد ، وقالوا له : ( أنت على حق ، وهذا البُرج المبتكر على حق )!
***
     إعتقد صالح أنه قد حل مشكلة الغذاء لأهل الجزيرة (1700نسمة ) ببرج واحد ، شيدته حكومة جزيرته ، ولم يكُن يعْلَم أنهُ فى الواقع ، قد حَلَّ مشكلة الغذاء لسكان الأرض جميعاً، بعدد محدود من الأبراج المُبتكرة ، ولهذا إستحق عن جداره لقب هو : ( أبو الحقول المعلقة !!

إنتهت



ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

لمحات من أحد طواغيت التاريخ (ستالين) (الإله.. الذي أنكروه) - عزت عبد العزيز حجازي - من كتاب جبروت الطاغية وطغيان الحاشية)

¨   بعد أن أطلقوا عليه في حياته أسماء كثيرة، كادت أن ترفعه إلى مقام الآلهة أو الأنبياء.. فقد قالوا عنه أنه:(أحب شعبه؛ وأنه "ال...

المشاركات الشائعة أخر 7 أيام